الكاتب: طارق فاضل
يحتفلُ الأردنيون في الوقتِ الراهنِ بمئويةِ تأسيسِ الأردن في ظروفٍ أقلُّ ما يقالُ عنها شاقة، حيث أثرت جائحة كوفيد-١٩على صحة الإنسان وسببت في إحداث وفياتٍ مُحزنة، وتضرر الاقتصاد الأردني ضرراً كبيراً الذي في الأصل يعاني من الهشاشة، فارتفعت نسب البطالة والفقر وانكمش النمو الاقتصادي لأول مرة منذ عقود.
إنّ هذه المئوية الِمفصلِية تُعتبرُ فرصة جيدة لترك الحاضر المؤسف لِبُرهة، ثم نعودُ للماضي ونستذكر أولئك الذين عاشوا قَبلنا هنا، وقد نستطيعُ استخلاصِ العبر والدروسِ القيمة إذا قمنا بتحليل الماضي ومُلاحظة تحرك روحِ العصر عبر الأجيال المتعاقبة.
يصعب كثيراً على علماء الآثار تحديد متى بدأ استقرار البشر لهذه الأرض العتيقة، فكما تفيضُ مجلدات المؤرخين بأخبار العصور السالفة تفيض الأرض نفسُها بآثارٍ تذكرنا بمن سكنوها، تحت المباني الحديثة نجدُ مبانٍ عثمانية وأيوبية وعباسية وأموية وبيزنطية ويونانية ونِبطية وآرامية وفينيقية وكنعانية على سبيل المثال لا الحصر!
ثم نستمر في التنقيب أكثر فنجد مستوطنة عين غزال التي يزيد عمرها عن ١٠ آلاف سنة فهنا نتوقف عن التنقيب ونقول إن البشر تجولوا هنا حتى قبل بداية نشوء الحضارات الإنسانية وقبل بداية التاريخ.
نلاحظ هذا التنوع الحضاري المثير للدهشة، فنجد في تاريخنا حضاراتٍ وأعراقٍ متعاقبةٍ ومتزامنة تختلف كثيراً إحداهما عن الأخرى في اللغات والمعتقدات والأعراق، ثم نجد أن هذا التنوع ما زال موجوداً في حاضرنا بل أنه قد أصبح جزءاً من هويتنا، فالأردنيين لم يكونوا يوماً منغلقين على أنفسهم أو يقوموا بإقصاء ذَوي الأفكار التي تناقضهم، بل إن التسامح وقبول الآخر هو مصدر استقرارنا وازدهارنا. فمن عادات البدو التي تركت أثراً في ثقافتنا حُسن الضيافة، ففي الأيام الغابرة كانت أنبل الصفات وأكثرها أهمية استقبال الغريب وإحسان معاملته.
ثم باستمرارنا بالتنقيبِ في الماضي نستطيع أن نلاحظ أن الحضارات السابقة بالرغم من فروقاتها المتعددة يجمعها عاملٌ مشترك، هذه الأرض ليست ذات مياه وافرة أو تضاريس سهلة أو موارد في متناول اليد، إنها أرضٌ قاسية صعب العيش فيها، فانعدام الرفاهية وقسوة الحياة كانت قَدَر كُل الحضارات السابقة. فصحراء البادية الأردنية القاحلة والميتة وقلة الامطار أشغلت أجدادنا، ونلاحظ هذا مثلاً عند الكنعانيين الذين اعتبروا المطر هبة إلهية وقاموا بتسمية المزارع المروية بمياه الأمطار أراضي بَعل -إله الخصب والعطاء-، وما زال هذا المصطلح موجوداً في المفردات الأردنية إلى هذا اليوم.
كذلك نرى أن الأنباط لم يعيشوا في أرضٍ سهلة وافرة الموارد بل بأرضٍ قاحلة لا تترك مكاناً للحياة، فنحتوا مكاناً لأنفسهم في الصخر متسلحين فقط بعزيمتهم وإصرارهم، أليس هذا ما نحاول فعله اليوم وإنما بصورة مجازية؟ فالصعوبات لم تكن يوماً عائقاً أمام الازدهار بل كانت دعوة لتحدي الصعوبات والمثابرة.
نصادفُ صفةٌ فائقةٌ الأهمية نَلمسُها بوضوح في تاريخنا وفي حياةِ أجدادنا ألا وهي رغبة أسلافنا في التخلص من التبعية والعبودية، بل إنها وصلت لدرجةٍ لفتت انتباه المؤرخين الأجانب وسجلوها في كتبهم، فنجد مثلاً المؤرخ ديودرس الصَقلي يصف الأنباط بأنهم قوم يعشقون الحرية لشدة وضوح هذه الصفة بهم، وقد استمرت هذه الصفة بارزة في تاريخنا فنجد مثلاً أن الثورة العربية الكبرى قامت لرغبة العرب في الاستقلال عن العثمانيين، ثم نجد أن استقلال الأردن وتعريب الجيش كان متماشياً مع رغبة الأردنيين بالعيش كأسيادٍ أحرار على أراضيهم لا كعبيدٍ ينفذون الأوامر.
لكن الحرية لا تأتي بلا ثمن، فهي تحتاج أولاً للكثير من التضحية للحصول عليها، وثانياً يمكن القول إن الحرية ليست أفضلية بقدر ما هي مسؤولية، فالإنسان الحر مسؤول عن نفسه وعن القرارات التي يتخذها بِملءِ إرادته، كما يمكن القول إن حياة العبودية أكثر راحة إذ أنها تريح الإنسان من مشقة التقرير ما بين الخيارات الصعبة وتحمل تبعات القرار. هذه المسألة ذات صلة كبيرة في الزمن الراهن في الأردن، وقد يساعدنا فهم هذه المسألة بوضع الأمور في سياقها المناسب، فالنظام السياسي في الأردن نظام ديمقراطي برلماني، بمعنى أن المواطنين هم أنفسهم من يقومون باتخاذ القرارات السياسية وتحمل تبعاتها، فالمسؤولية هي ضريبة الحرية ولا يمكن الحصول على واحدة دون الأخرى.
نستطيع أن نكون واثقين أنه ليس الحاضر فقط وإنما المستقبل كذلك سيكون بكل تأكيد مليئاً بالمشاقّ والتحديات، ومن اليقين أن الموارد الشحيحة أصلاً ستستمر بالاندثار، فهذه الأرض ليست من صفاتها الرحمة، لكن يمكننا النظر لهذه المشقة على أنها ميزة وهبة تدفعنا لنكون أقوياء ومبدعين، وما دام تجري بعروقنا دماء الأجداد لن نعرف اليأسَ أبداً.
هذا المقال تم تقديمه إلى مسابقة مقالات وصور قاموا بتنظيمها معهد غرب آسيا شمال افريقيا ومؤسسة كونراد اديناور في العام ٢٠٢١ بمناسبة مئوية تأسيس الدولة الأردنية. يتحمل مؤلف المقال كامل المسؤولية القانونية عن المحتوى الوارد في المقال ولا يعبر هذا المحتوى بالضرورة عن رأي هذه المؤسسات.