من أبجديات المسألة السياسية إدراك أن رتبة القوة في السياسة تتأثر إلى حد بعيد بمواقف السياسيين منها. بمعنى أن أهم مفاتيح نجاعة العملية السياسية يعتمد على حصافة الشخوص السياسية وقدرتهم على إدارة الملفات الشائكة بما يتسق والحالة العامة في البلاد، فضلًا عن درجة وعيهم بمتطلبات الشارع وتطلعاته. عليه، لا يمكن إنكار أن مهمة السياسيين الأولى تتمثل في تثبيت حالة السِلم والاستقرار عبر تصميم سياسات عامة متكاملة وإنفاذها بشكل فعال يحقق الصالح العام – مع إدراكنا لفضاضة تعريفاته – عوضًا عن الانجرار إلى السياسات المجتزأة قصيرة الأمد، أو المنتقاة التي يغلب عليها طابع الصالح الخاص.
من هنا، يُبنى على هذا الاستهلال استنهاض سؤال المسألة السياسية في الأردن. وهو سؤال شائك ندرك أنه لا يمكن لمقال رأي مقتضب أن يعالج جميع جوانبه، بيد أن الضرورة تقتضي الإضاءة على ثلاث مواطن خلل ثبت حضورها في المشهد السياسي العام في الأردن خلال السنوات الماضية.
الاستقواء على الدولة
أولًا، مظاهر الاستقواء على الدولة، بدلالة عدم فرض سيادة القانون على الجميع. هنا، يعد الشاهد الأبرز مما تم رصده مؤخرًا عدم التقيّد بأوامر الدفاع التي قضت بفرض حظر شامل على البلاد بأوقات محددة مسبقًا، إذ تم تداول العديد من الفيديوهات والصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي وثّقت حالة العصيان لهذه الأوامر ومخالفة تعليمات عدم التجمع. لا بل تعدت ذلك إلى إبراز مظاهر استقواء مختلفة متمثلة باستخدام أنواع متعددة من الأسلحة النارية وعقد راليات حشد ومؤازرة لعدد من المترشحين في مناطق مختلفة من المملكة.
ومن الشرعية التساؤل هنا عن مدى التزام هؤلاء "المُشرّعين" بتطبيقات القانون وإنفاذه والنهوض بدورهم الرقابي والتشريعي في المرحلة القادمة وهم قد فشلوا بدءا في كبح جماح مظاهر الاستقواء على الدولة في مناطقهم ولدى أوساط مناصريهم. لا بل وذهب البعض منهم إلى تبرير هذه المظاهر تحت عنوان الخجل من إيقاف فرح العائلة والأقارب وعدم القدرة على السيطرة عليه.
في المقابل، لا يمكن إغفال أن ما حصل من خروقات هو بالضرورة جزء من ردة الفعل على ما تم وضعه من سياسات تفتقر الحكمة بالدرجة الأولى. ذلك أن التجارب المحلية والإقليمية والعالمية أثبتت على حد سواء عدم نجاعة سياسة الحظر الشامل لفترات قصيرة في تحقيق الهدف المنشود من مجابهة انتشار الجائحة أو تسطيح المنحنى الوبائي المرتبط بها. بالتالي، تقف الدولة اليوم أمام تنازع الشارع الشعبي مقابل ذلك السياسي بوجهتي نظر مختلفتين تحاول كلٍ منهما احتكار أحقيتها في فرض ما تراه مناسبًا. ومن المنطقي توقع رفض الشارع لما يبدو له باللامنطقي.
ولا يُقصد هنا تبرئة القائمين على هذه الخروقات بقدر الإشارة إلى مظهر سلوكي يتطلب تحرك فوري وسريع من قبل أركان الإدارة السياسية والأمنية في البلاد. حيث أن هذه الانتقائية في تطبيق سيادة القانون لا يعود إلّا بتعزيز شعور غياب العدالة الاجتماعية لدى قطاعات واسعة من الملتزمين بالتعليمات والقوانين، ومن المتقطعين عن العمل والرزق في بيوتهم بينما يشاهدون أرتال الخارقين لهذه التعليمات من أجل الاحتفال بفوز هذا المرشح/ة أو الاعتراض على خسارة ذاك. بالإضافة إلى خطورة أن ما يتم رصده من تراخي في إنفاذ القانون، وأوامر الدفاع الاستثنائية، يصح وصفه بحالة من التمييع لهيبة هذه القوانين ووقعها لدى الشارع، وهو ما من شأنه أن يعيق بشكل حقيقي قدرة الدولة على استخدامها وتفعيلها في الظروف الطارئة والدقيقة فعلًا – ما اقتضت الحاجة لذلك لا سمح الله في قادم الأيام.
ضعف الثقة
ثانيًا، ضعف الثقة الشعبية بالعملية السياسية وأركانها، بدلالات عدة أهمها تدني نسب المشاركة في "العرس الديمقراطي" الذي دعت له الدولة بكافة شخوصها وهيئتها المستقلة وكُتّابها ومؤسساتها. حيث أن الملفت في مشهد الانتخابات النيابية التي جرت هو عدم مشاركة أكثر من ثلثي سكان المملكة وتسجيل نسبة عزوف ناهزت جدار الـ 71 في المئة. ولا يصح قراءة هذا العزوف بمعزل عمّا سبق من تدني تدريجي للمشاركة عبر الدورات الانتخابية الماضية كذلك؛ فقد شارك نحو 56.5 في المائة في الدورة الانتخابية لعام 2013، وانخفضت النسبة إلى 36 في المائة في الدورة التي تلتها في العام 2016، قبل استقرارها على 29.9 في المائة لهذه الدورة في العام الحالي 2020.
يتضح، إذن، أن مسار المسألة السياسية في الأردن خلال العقد الفائت يعاني من انعزال نُخبه والقائمين عليه وعدم قدرتهم على قراءة المزاج العام واستمالته نحو المشاركة السياسية الفاعلة. علاوةً على عدم قدرتهم على كسر حالة الرتابة السياسية التي يتسم بها الشارع، وتغيير لسان حاله الذي لا يبدو بأنه عاد يرى فارقًا حقيقيًا في مشاركته من عدمها. يضاف إلى ما سبق انخفاض مستوى مشاركة المرأة سواء بالترشح أو الاقتراع عن الدورات النيابية السابقة، مما يهدد بالعودة عن مكتسبات واستحقاقات هامة تم إنجازها بهذا الشأن.
عليه، يبدو أن الإصرار السياسي على الذهاب إلى الانتخابات النيابية في هذه المرحلة، رغم مؤشرات الاحتقان الشعبي والقلق الصحي والحيرة الاقتصادية، لم يأتي بالنتائج المرجوة منه. ذلك أنّه عمّق من حالة الاستقطاب الشعبي والاختلاف حول جدوى عقد الانتخابات النيابية في ظل الوضع الوبائي الراهن، عوضًا عن إبرازه لمظاهر الاستقواء المشار إليها مسبقًا والتي من شأنها أن تقوّض الشرعية السياسية للانتخابات النيابية ومسيرتها وشخوصها.
غياب المحاسبة والمساءلة
ثالثًا، غياب آليات المحاسبة والمساءلة من المشهد السياسي وعدم ارتقاء شخوصه بتحمل مسؤولية مناصبهم وواجباتهم. إذ لم يشهد الشارع، رغم رصده للإخفاقات المتكررة وتعريتها بشكل مستمر من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، أي تحرك رسمي لمساءلة أولئك الذين قصروا في خدمتهم أو جانبوا الصواب في تقديراتهم دون أن يقدموا ولو عذرًا واحدًا، ولو على استحياء.
ومن الفائدة هنا استعراض ما يشير إليه هانز مورغنثاو في كتابه "السياسة بين الدول" حول أن القوة السياسية هي علاقة إنسانية بين أولئك الذين يمارسونها وأولئك الذين تمارس عليهم. والمفتاح في هذه القاعدة هو ضرورة أنسنة العلاقة القائمة بين الساسة والشارع وإدراك حقيقة أن السياسي يُخطئ، وأن العودة عن هذا الخطأ ومحاسبته من قبل الدولة يُعد أبرز سمات القوة السياسية، لا الضعف. بهذا، يتم ترسيخ مبدأ سيادة القانون لدى عناصر المسألة السياسية أولًا، قبل طلبه من الشارع في معادلة تبدو أقرب لكونها أحادية الجانب منها إلى التبادلية في الوضع القائم.
المضي قدمًا
على ما سبق، تتطلب معالجة المسألة السياسية في الأردن اليوم البدء حيث مظاهر الاستقواء على الدولة أولًا ومعالجة الغياب المقلق للدولة في أحيان، أو حضورها الانتقائي في أحيان أخرى . ومن الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن الصيغة الأمثل لهذا التحرك يجب أن تنطلق من مقاربة الفعل، وليس ردة الفعل كما شهد الشارع مسبقًا – في جريمة الزرقاء كمثال حديث. ذلك أنّه من غير الحكمة أن تتحرك الدولة بعقلية الانتقام أو الثأر عوضًا عن الالتزام الوثيق بمبادئ سيادة القانون وإنفاذه على الجميع دون هوادة.
بعدها، الوقوف مطولًا وعلميًا وموضوعيًا أمام المسألة السياسية وحالة عدم الثقة التي يتسم بها المناخ العام، والتي ما انكفأت تدفع بمزيد من العزوف السياسي لأطياف مجتمعية واسعة. بموازاة هذه الجهود، لم يعد من الترف الحديث اليوم عن ضرورة مساءلة ومحاسبة كل من ثبت تقصيره/ا لما أضّر هذا القصور بهيبة الدولة وقوّض من فسحة المواطنة الصالحة والفاعلة. لا مناص اليوم من إعادة رسم شكل العلاقة بين الدولة والمواطنين، وضبط إيقاعها على أُسس الصالح العام والسياسات العامة التي تعمل وتُطبّق على الجميع.
عن الكاتب
بارق محادين باحث رئيس في معهد غرب آسيا وشمال أفريقيا، متخصص في الأمن الانساني ومجابهة التطرف العنيف.