يعد التعامل مع الأزمات، وخاصة الكوارث الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية، وإدارتها و الحد من مخاطرها، أحد العوامل الأساسية في بناء مجتمعات قوية وقادرة على الصمود، لا سيما في دول مثل الأردن، حيث تُعد الكوارث البيئية مثل الفيضانات الوميضية وحالات الجفاف المتكرر، مصدر قلق متزايد نظراً لمناخه الجاف وموارده الطبيعية المحدودة، بالإضافة إلى ازدياد شدة وتكرار الأحداث الجوية المتطرفة من الموجات الحارة والصقيع.
يعمل معهد غرب آسيا و شمال افريقيا على دراسة مفهوم التوطين وأهميته والتحديات التي تواجه تطبيقه في سياق الحد من وإدارة مخاطر الكوارث كنوع من تحسين المدنية بورقة سياسات تحت مشروع “الشريعة والمدنية في الوطن العربي” باستضافة وإدارة مركز الشرق الأوسط في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
على الرغم من تطور مصطلح التوطين بشكل كبير على مدى العقود الماضية، حيث كانت المساعدات الدولية تدار بشكل كبير من قبل المانحين مع مشاركة محدودة من الجهات المحلية، إلا أنه بحلول التسعينيات، تحول التركيز نحو بناء القدرات والنهج القائمة على المجتمع، مع الاعتراف بفعالية واستدامة تمكين الجهات المحلية. شكلت معالم رئيسية مثل إعلان باريس حول فعالية المساعدات لعام 2005 وقمة العمل الإنساني العالمية لعام 2016، التوطين كمبدأ أساسي للعمل الإنساني. كما عززت الصفقة الكبرى “Grand Bargain” التي أُطلقت في القمة العالمية للعمل الإنساني في إسطنبول، بهدف تحسين كفاءة وفعالية المساعدات الإنسانية حول العالم هذا التحول، حيث التزم المانحون بتخصيص ما لا يقل عن 25% من التمويل الإنساني للمستجيبين المحليين.
برزت في هذا السياق فكرة توطين المساعدات الإنسانية كاستراتيجية رئيسية لتعزيز فعالية واستدامة جهود الحد من مخاطر الكوارث، وذلك من خلال تحويل إدارة التمويل من النهج التقليدي الذي يعتمد على الجهات الدولية إلى نهج يعتمد على الإدراك بالإمكانيات والقدرات للجهات المحلية وتمكينها بشكل أكبر والاستفادة من معرفتها بالسياق المحلي. ولتحقيق ذلك، تركز الاستراتيجية على تعزيز وصول الجهات المحلية إلى الموارد المالية، وتزويدها بالمعرفة والأدوات والبنية التحتية اللازمة والاعتراف بدورها في الخطوط الأمامية لضمان تدخلات أكثر فعالية واستدامة، مما يعزز قدرتها واستقلاليتها في مواجهة الأزمات، وترسيخ مفهوم المدنية.
توطين المساعدات الإنسانية في السياق الاردني
وُصف التوطين في السياق الأردني بأنه “توطين بحكم الواقع” وليس “توطيناً تصميمياً”، حيث يحدث التوطين لأسباب متعددة، مثل غياب القدرات ونقص التمويل، وليس نتيجة جهد استراتيجي وجماعي. علاوة على ذلك، تعاني سياسات التوطين في الأردن من الغموض وضعف الوضوح، مما يؤثر سلباً على فاعلية الجهات الوطنية، بما في ذلك الجهات الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني، أو المجتمع المحلي نفسه. على سبيل المثال، يهدف قانون اللامركزية رقم 49 لعام 2015 إلى تمكين الإدارات المحلية، إلا أن عملية صنع القرار والتحكم المالي لا تزال مركزية الى حد كبير، مما يحد من فعالية حوكمة تقليل مخاطر الكوارث، خصوصاً في مجالس المحافظات والبلديات. فضلاً عن ذلك، هناك تداخل في المهام والمسؤوليات، مما يؤدي إلى ضعف كفاءة تطبيق إجراءات الحد من المخاطر، وذلك وفقاً للاستراتيجية الوطنية للحد من مخاطر الكوارث. كما إشارات الإستراتيجية الي أن الاردن يفتقر إلى ميزانية وطنية مخصصة لتقليل هذه المخاطر، ويعتمد بدلاً من ذلك على التمويل القائم على المشاريع المقدَّم من المانحين، مما يجعل القدرة على الصمود على المدى الطويل غير مؤكدة.
من ناحية أخرى، تواجه مؤسسات المجتمع المحلي عدة تحديات في المشاركة في تقليل مخاطر الكوارث وإدارتها، من أبرزها ضعف الثقة في قدراتها وكفاءتها، حيث يُنظر إليها غالباً على أنها غير قادرة على تلبية المعايير المطلوبة، مما يحد من فرص إشراكها في الجهود المبذولة ويقلل من توجيه المساعدات الإنسانية إليها بشكل مباشر. وعلى الرغم من إدراج مخصصات لتعزيز قدرات المؤسسات الوطنية من قبل المانحين، إلا أن نسبة صغيرة فقط منها تُطبق فعلياً، مما يعكس فجوة واضحة بين التخطيط والتنفيذ. إضافةً إلى ذلك، يؤدي الحد من إمكانية وصول هذه المؤسسات إلى الموارد المالية إلى خلق فجوات في توزيع التمويل، مما يؤثر سلباً على مشاركة مؤسسات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية في الحد الكوارث و إدارتها.
الرؤية المستقبلية والتوصيات
لتحقيق نتائج أكثر استدامة في توطين المساعدات الانسانية والتي ستنعكس ايجاباً على الحد من خطر الكوارث الطبيعية وإدارتها، سيتم النظر خلال المشروع البحثي إلى التوطين في الأردن عبر ثلاثة مستويات من التمويل والعمل في الاردن:
لتحقيق نتائج أكثر استدامة في توطين المساعدات الانسانية والتي ستنعكس ايجاباً على الحد من خطر الكوارث الطبيعية وإدارتها، :سيتم النظر خلال المشروع البحثي إلى التوطين في الأردن عبر ثلاثة مستويات من التمويل والعمل في الاردن
أولاً: من الجهات المانحة إلى مؤسسات الحكومية، تُعدّ المؤسسات الحكومية جهات فاعلة محلية، حيث توطين المساعدات القادمة من المانحين الدوليين الى المؤسسات الحكومية سيعزز القدرات المؤسسية مما يمكّن من التخطيط السياسي طويل الأجل، ويسهل تطوير البنية التحتية الحيوية للاستجابة للكوارث. كما يسمح بالاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، مثل أنظمة الإنذار المبكر، وأدوات تقييم المخاطر، ومراكز تنسيق الاستجابة للطوارئ، مما يؤدي بدوره إلى الوصول إلى استراتيجيات أكثر كفاءة للتخفيف من آثار الكوارث.
ثانياً: من المؤسسات الحكومية إلى مؤسسات المجتمع المدني، حيث يمكن النظر الى المؤسسات الحكومية كجهات تسهيلية تقوم بتوجيه الأموال إلى مؤسسات المجتمع المدني وتسد الفجوة بين السياسات الوطنية واحتياجات المجتمع. يضمن ذلك مشاركة ذات معنى لمؤسسات المجتمع المدني في جهود تقليل مخاطر الكوارث وإدارتها، حيث يتم وضعها ليس فقط كمنفذين للمشاريع، ولكن أيضًا كمصممين ومشاركين في وضع الاستراتيجيات الوطنية، مستفيدة من خبراتها المحلية لمعالجة نقاط الضعف المجتمعية.
ثالثاً: من مؤسسات المجتمع المدني إلى المجتمعات المحلية، حيث يتم التأكيد على النهج التشاركي، حيث تُعتبر المجتمعات المحلية مساهمين نشطين وليسوا مستفيدين سلبيين بينما تلعب مؤسسات المجتمع المحلي دوراً حاسماً في تجميع وتضخيم أصوات المجتمع وضمان توافق توزيع الموارد مع الأولويات والاحتياجات المحلية.
يتمتع الأردن بمقوماتٍ فريدة تؤهله ليكون نموذجاً رائداً في مجال التوطين المستدام، حيث يجمع بين بنيةٍ تحتيةٍ متطورة، ونظام مؤسسي وقانوني متكامل، وشراكات استراتيجية مع المنظمات الدولية الكبرى. كما يمتلك الأردن سجلاً حافلاً في إدارة ملف اللاجئين بكفاءة، مدعوماً بمجتمع مدني فاعل وسوق عمل واعد في قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة. ولكن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تعزيز التمويل المستدام، وبناء القدرات المحلية، ومواصلة تطوير السياسات لمواجهة التحديات القائمة، مما سيمكن الأردن من تحويل تجربته إلى نموذج إقليمي وعالمي ناجح.
لقراءة المقال على موقع جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية: اضغط هنا