بالرغم من العدد المتزايد لأنشطة المراقبة ومشاريع مكافحة الإرهاب، إلا أن التهديدات المحلية للتطرف العنيف تتصاعد وتتجه نحو فضاءات عابرة للحدود. يثير هذا التوجه إلى سؤال حاسم: كيف تعمَّقت الأصولية المتطرفة للصراعات المحلية وأصبحت عالمية الانتشار؟
في تقرير حديث لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" والذي حمل عنوان "تطور التهديد السلفي الجهادي"، تم تسليط الضوء على الأعداد المتزايدة من "الجهاديين" عالمياً. حيث يشير التقرير بشكل خاص إلى وجود ما يقارب أربعة أضعاف عدد المقاتلين الإسلاميين السُّنة اليوم بالمقارنة مع الحال في 11 أيلول، 2001.
وعلى الرغم من اللبس الحاصل في استخدام كلمة "الجهاديين" في التقرير إلا أنه ما يزال ذا أهمية في إشارته إلى ما يأتي: بينما يعمل عدد كبير من المتطرفين العنيفين على مستوى محلي، ما زالوا قادرين على إقامة روابط عابرة للحدود المادية مع جماعات أخرى، متجمعين في نهاية المطاف داخل بوتقة ما أصبح يعرف بالجماعات المتطرفة العنيفة العالمية. وتؤكد الاستراتيجية العملياتية لما يُعرف بتنظيم الدولة، أو داعش، هذا الانتقال من المحلية إلى العالمية.
هناك ثلاثة محاور رئيسية تستحق تسليط الضوء عليها. أولاً: استعمال التكنولوجيا والاستعارة بالأصول الخارجية عبر العالم بغية تكريس ونشر التهديدات الإرهابية، تكريساً لما يعرف بظاهرة "تفويض الجماهير". نجحت هذه الاستعارة في زيادة قدرة الجماعات المتطرفة على جذب المتطوعين بالاعتماد على وسائل الإعلام البصري والهويات التنظيمية الجديدة. بالتالي، فإن معالجتها تتطلب حواراً واعياً ومتعدد الاختصاصات؛ يطرح إشكاليات أمن الشبكات والأمن السيبراني، ويقدم دراسة دقيقة لاستغلال هذه الجماعات الإرهابية للوسائل والمنصات الحديثة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تأخذ هذه النقاشات بضرورة الموازنة بين دعم قطاع التكنولوجيا في مكافحة استغلال الإرهاب مع ضمان عدم المساس بمسائل الخصوصية وحريات الإنسان الأساسية في آن.
ثانياً: الانتقال من نموذج تراتبي عمودي متصاعد إلى آخر أفقي، حيث أصبحت اللامركزية أساساً للتفكير والعمليات لدى العديد من هذه الجماعات. ويُدلل على هذا الانتقال عبر النظر في تنشيط هذه الجماعات لشبكات واسعة من الخلايا النائمة، وتوظيف ملف المقاتلين العائدين والذئاب المنفردة لتنفيذ هجمات خارج المسارح الكلاسيكية والسيناريوهات المعتادة.
نظرة أقرب لتفجيرات الكاتدرائية التي حصلت في الفلبين عام 2019 وتفجيرات عيد الفصح في سريلانكا تقدم حالتين تثبتان كيفية تحول مسرح الأحداث وتوسعه جغرافياً. كذلك، فإن الاتجاه الملحوظ حول تصاعد عدد النساء والفتيات الانتحاريين في مناطق كحوض بحيرة تشاد في شمال نيجيريا يوضح إضافة فاعلين جدد لهذه المعادلة. على سبيل المثال، كشف تقرير CTC للمؤلفين وارنر وهيلاري ماتفيس (2017) أن ما يشكل 56% من مجمل انتحاريي بوكو حرام – 434 على الأقل – من بين نيسان 2010 وتموز 2017 كانوا من النساء.
ثالثا: توسع نطاق التطرف العنيف ليشمل قادمين جدداً منضمين تحت هذه المظلة على شاكلة الإرهاب "الشعبوي" و"اليمين المتطرف" و"تفوق ذو العرق الأبيض" القادم من مجتمعات ديمقراطية مستقرة، لا تتوافر فيها الشروط التقليدية للتطرف العنيف. على سبيل المثال، الاستعمال المستمر للخطاب العنصري وكراهية الأجانب وكراهية الإسلام في فرنسا، والذي يلقى صدى متصاعداً وحواضن قوية على امتداد القارة العجوز كهنغاريا، نيوزيلندا، المملكة المتحدة وغيرها من الدول. عليه، يتجلى للمراقبين رؤية أن التهديد الإرهابي لـ "الشعبوية" و"اليمين المتطرف" أصبح يحمل سمة انتشارٍ عابر للحدود يتجاوز الإطار المحلي. الجدير بالملاحظة أيضاً حول هذا الانتقال هو إشتراك هؤلاء القادمين الجدد مع الجماعات المتطرفة العنيفة في استعمال وسائل متعددة لبناء السردية المتطرفة المناط بها صياغة وتوضيح الرؤى التي يتبنونها، ويبدو أن الخطاب الثنائي المبني على اللونين الأبيض والأسود هو إحدى هذه الوسائل.
مع احتساب هذه التحولات، تصبح الإجابة عن تعمق دور الأصولية المتطرفة وعالمية انتشارها أوضح، كما أنها تتطلب فحص مسارين متوازيين.
أولاً: مسار المظالم غير المعالجة التي استخدمت من قبل هذه الجماعات لاستهداف المتبنين المحتملين لأهدافها. يتسع نطاق هذه المظالم ليشمل قضايا الظلم الاجتماعي، التهميش، سياسات الهوية، الحوكمة الضعيفة، والمعيقات الاقتصادية. وجميعها عوامل تشير إلى الحاجة لفحص دور السياسات الوطنية في ردع تهديد التطرف العابر للحدود، والتي ما زالت مسألة تحتاج إلى الكثير من الأبحاث السياساتية المختصة.
ثانيا: تأثير سياسات الأمن التقليدية على لامركزية التطرف لدى الأفراد. فالشكوك قائمة حول نجاعة هذه السياسات في إطار الاحتواء الفعال للتطرف العنيف العابر للحدود. وقد أسهمت ورقة بيضاء أعدّها معهد غرب آسيا وشمال أفريقيا حديثاً في دراسة هذا الأثر من منظور إقليمي، واتَّضَحَ أن هناك حاجة حقيقية لإنتاج المزيد من المعرفة حول هذا المسار؛ ذلك أن السياسات الأمنية التقليدية التي تأتي بمعزل عن إطار شمولي أوسع يعالج المظالم السياقية ليست كافية في التصدي لهذا التهديد العابر للحدود. وعلى الرغم من أن قطاعات الأمن المختلفة تبذل جهودًا لتجسير انطباع إيجابي لدى المواطنين، فإن المجيبين ينظرون عمومًا إلى هذه التدابير في اتجاه سلبي. إن ميل المجيبين إلى انتقاد التدابير الأمنية يتطلب طريقة جديدة للتفكير في وسائل تنفيذ السياسات الأمنية وطرحها وتأطيرها.
عند إسقاط هذين المسارين على المشهد العالمي، يتضح في الواقع أن مواطن الخلل القائمة في الاستراتيجيات المتبعة قد أنتجت صراعات أكثر وليس أقل، وأفضت إلى مستويات أعلى من التطرف العنيف. للدلالة، لا عجب في ملاحظة أن بؤر الصراعات الـ 25 الرئيسة التي أطّرها مركز تعقب الصراعات العالمي التابع لمجلس العلاقات الخارجية، لم يُظهر صراع واحد منها حالة من التحسن، في حين أن 17 حالة من حالات الصراع الرئيسة في العالم بقيت مستمرة على حالها، و8 منها قد اتجهت نحو التدهور.
لا يقتصر إخفاق السياسات الأمنية الحالية على عدم إدراك الأبعاد المعيارية للأمن الإنساني، ولكنها أيضاً لا تتناول الطابع المتداخل وغير المحدود للتهديدات الأمنية الناشئة، بما في ذلك تلك الناجمة عن التحركات العابرة للحدود. ولذلك، فإن استراتيجيات الاحتواء الفعّالة العابرة للحدود تتطلب استكشافا أمينا لهذا المتغير بشكل خاص، كما ينبغي – خلال هذه العملية – بيان أثر الافتقار إلى المعرفة على هذه السياسات، وآلية انعكاس ذلك على المستوى المحلي.
للمضي قدماً، يجب تطوير المقاربة المتبعة لاحتواء التهديد العابر للحدود المتمثل في التطرف العنيف. يبدأ ذلك بكسر حالة التوازي بين المسارين المذكورين أعلاه. كما أنه ليس من الحكمة الاستمرار في إجراء محادثات أحادية الجانب بين الأطراف الفاعلة التقليدية على الجانب الأمني، وبين الممارسين على جانب مجال الأمن الإنساني. ومن شأن إبقاء هذه الحالة من التوازي أن يسفر عن تدخلات أحادية الجانب. بيد أن التحولات الواقعة على المشهد تحتم إدراك حقيقة أن الحلول الفعّالة توجد في الدوائر المتعددة المتقاطعة بين هذين المسارين، وليس على حدة منها.