قبل فترة وجيزة، رفعت منظمة الصحة العالمية مرتبة تفشي كوفيد-19، والذي يُعرف بفيروس كورونا، من درجة وباء إلى درجة جائحة. وذلك يشكل اعترافًا أُمميًا بانتشاره العالمي، داعيةً دول العالم إلى وضع خطط استراتيجية استعدادًا لتفشي المرض في مجتمعاتهم. سريعًا، التقطت دول عديدة حول العالم هذه الدعوة وباشرت بفرض سلسلة من إجراءات الرقابة والعقوبة والسيطرة على نشاط الأفراد وتحركاتهم. وبادرت بالفعل في تفعيل قوانين الطوارئ الخاصة بها لبسط أكبر قدر ممكن من الدور التقليدي الحمائي للدولة، وذلك بالارتكاز على تدابير أمنية احتياطية صارمة تم وضعها لهذا الغرض.
وانطلاقًا من هذا التحول المهم للأزمة، ينهض سؤال إشكالي بشأن تداعيات انتشار هذا الفايروس على شكل النظام العالمي عمومًا، والإفرازات المنبثقة من تبعات هذه الجائحة على دور ووظيفة الدولة تحديدًا. فالأزمة العالمية ستدفع بتغيرات على شكل النظام العالمي؛ تأخذ بموجبها بعض الدول أدواراً قياديةً أوسع، ويتم خلالها تحدي المكانة القيادية لبعض الدول الأخرى. علاوةً على منحها صلاحيات تنفيذية ورقابية أوسع لأجهزة الدول الأمنية. ذلك أن المراقب للمشهد يرى أن انتشار الفايروس أوجد لدى دول العالم عدواً مزعوماً لا يكمن سبب العداوة معه في صراع على السلطة أو النفوذ أو الموارد، بل في قدرته الفتاكة على تحدي أنماط العيش والتفاعل الإنساني والأطر الوظيفية للدولة بمعناها الويستفالي.
ليس من السهل بالنسبة إلى مؤسسات إنفاذ القانون والحفاظ على الأمن أن يَلِجوا عالم مجابهة انتشار جائحة فيروسية وتطويق تبعاتها؛ فالأمر يشبه السير فوق حقل ألغام لا ينجو منه حتى كبار الدول وأكثرها وفرةً بالموارد والخبرات. وبينما يبدو انتشار هذه الجائحة اليوم حدثًا غير مسبوق، إلا أن العالم قد سبق وأن تعامل مع أزمات مشابهة قوَّضت منظومة الأمن والسلم الدوليين ووضعت النظام العالمي أمام استحقاقات جديدة. تعد جائحة إنفلونزا 1918، أو ما عرف بالإنفلونزا الإسبانية، التي انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى مرجعًا مهمًا حول الأوبئة الحديثة. ذلك أن ما خلّفته من ضحايا في الأرواح البشرية آنذاك تراوح بين الـ 50 إلى 100 مليون شخص، وهو ما يعادل ضعف المتوفين في الحرب العالمية الأولى. بعد ذلك، وقف العالم أمام تحدي جوائح الإنفلونزا الآسيوية عام 1957، وإنفلونزا هونغ كونغ 1968، والإنفلونزا الروسية 1977، وجائحة إنفلونزا إتش 1 إن 1 في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة.
وعند استعراض هذه الأزمات، نرى بأنها وضعت الأدوار الخاصة بسيادة الدول محل اختبار وتحدٍ أمام بروز الحاجة إلى التنازل عن بعض من هذه السيادة لمصلحة العمل الجمعي، والذي شكّل له "المجتمع الدولي" آنذاك رافعة حقيقية. إذ كان من الضرورة بمكان أن يُتاح المجال لأطراف غير حكومية، من منظمات صحية وبحثية عالمية وشركات أدوية خاصة، لتدلو هي بدلوها أيضًا. وجسّد هذا تحولًا غير مريح بتحديه لفكرة الدولة المركزية المناط بها فرض السيطرة على جميع المكونات. ولعل أبرز ما نتج عن آثار هذه الأزمات كان تفوق نظام عالمي جديد يركز على مكون الفرد ورفاه على حساب السلطة ونفوذها، وعلى دور المجتمع الدولي وقواعده على حساب الدولة الواحدة ذات اليد الطائلة. ومن البديهي القول إن الدولة الواحدة كانت غير قادرة على معالجة هذه الأزمات لوحدها على أي حال، بكل ما كانت تتحصن خلفه من سيادة وشرعية في فرض السلطة.
بيد أنه لا يمكن اعتبار تعامل العالم مع جوائح سابقة وتطويق أثرها ضمانة لقدرته على التعامل مع جائحة كورونا اليوم. ذلك أنّه من المؤسف الإشارة إلى أن العالم، بعد كل واحدةٍ من تلك الأزمات، لم يشرع بجدية في الاستثمار في بنى تحتية علمية قادرة على مجاراة التحديات المشابهة المحتملة، وكانت الدول سرعان ما تبحث عن منفذٍ يقودها ثانيةً إلى تكريس مفهوم السلطة على حساب الفرد، والدولة الواحدة على حساب المجتمع الدولي. المقلق في المشهد اليوم هو أنّه يحمل تكرارًا لذات الممارسة: فالدولة تعود في سياق التجاوب مع الفزع الذي يخيم على الشارع بسبب انتشار الفايروس، واضعة كامل ثقلها خلف تركيز السلطة اللازمة لفرض التدابير الضرورية. وعلى الرغم من أهمية هذه العودة بغية تطويق آثار الجائحة والحد من انتشارها، إلا أنّه لا يمكن غض الطرف عن المخاوف التي يمكن لها أن ترافق هذه العودة، وعن خطورة أن يتم تأطير النقاش ضمن ثنائية القبضة المركزية أم الفناء.
وللوقوف على خلفية هذه المخاوف، لا يجوز الاكتفاء بتسليط الضوء على السجل الممتد في العلاقة المعقدة أمنيًا وسياسيًا واجتماعيًا بين هذه السلطات وشعوبها فحسب، بل يتعين كذلك الأخذ في الاعتبار السجال القائم حول ضرورة حماية الحريات والحقوق الفردية والشخصية. وهنا، لا مفر من حقيقة أن الأزمة القائمة قد أيقظت معضلة قديمة متجددة حول موازنة معادلة الأمن مقابل الحريات.
للوهلة الأولى، يبدو من المُبرّر الانشغال بالتحدي المباشر للأزمة كونها ما زالت قائمة. إلا أن إرهاصات ما بعد الأزمة ستكون أكثر جسامةً ووقعًا على شكل النظام العالمي ودور الدولة، وبالتالي تتطلب استشرافًا مبكرًا لعدد من الفضاءات.
أول هذه الفضاءات يتعلق بشكل الواقع الجديد الذي فرضته الأزمة. حيث إنّها سرَّعت من تحولات مهمة كانت قد بدأت بالفعل قبل بزوغ الأزمة؛ من أنماط في العمل عن بعد والتعليم الافتراضي ومحدودية التنقل المادي بين دول العالم وأشكال التواصل الاجتماعي وأهمية ملف الرعاية الصحية العالمية، إلخ. بالتالي، لا مبالغة في قول إن احتمالية ديمومة هذه الأنماط كواقع حال جديد بعد مضي هذه الأزمة هي أكبر من احتمالية تبددها. الملفت طبعًا هو أن هذا الواقع الجديد يتطلب دورًا تنظيميًا وإشرافيا فقط من قِبل الدولة، لا دورًا محوريًا عالي المركزية.
الفضاء الثاني مرتبط بخطورة أن تزيد هذه الأزمة من مد اليمين السياسي المنتشر في العالم. فالغني عن البيان هنا هو أن الدول عادةً لا تتجه نحو التفريط بهذا النوع من السلطة الواسعة بعد الحصول عليها. وكما تم الإشارة سابقًا، فقد قدّم انتشار هذه الجائحة مسوغًا لا يقبل الكثير من التشكيك تم بموجبه فرض سياسات وتدابير أمنية واسعة أفضت إلى عودةٍ مفرطةٍ للدولة. وبقدر تعلق الأمر بالجوائح، فإن انتشارها يعد إحدى أشكال الحروب غير التقليدية، وفي الحروب تأخذ القوى اليمينية في التنامي والتصاعد. تثبت هذه النظرية أكثر عند الأخذ بالحساب التبعات الاقتصادية الحادة التي ستنتج عن الأزمة، من ركود اقتصادي عالمي متوقع وخلل في سلاسل الإنتاج العالمية، حيث إن الحركات اليمينية تقتات على ظلال الأزمات الاقتصادية.
الفضاء الثالث يرتبط بشكل النظام العالمي. ذلك أن نشوب الأزمات العالمية يختبر ما لدى كبرى الدول من قدرةٍ على قيادة دفة العالم وشرعيةٍ في توجيهه نحو بر الأمان. وقبل أن يُماط كامل اللثام عن تداعيات الأزمة القائمة، يتضح أن سوء إدارة الأزمة من قبل الإدارة الأمريكية في الداخل الأمريكي قد أضرّ بالفعل بقدرتها على قيادة الأزمة عالميًا، وبالتالي على شرعية هذه القيادة في الدرجة الأولى.
في المقابل، فإن بروز منظمة الصحة العالمية كمؤثرٍ أساسي في تطويق الأزمة وتداعياتها، وإحاطتها العلمية بحقيقة الوضع من كل جوانبه، يضمن لها، وللمنظمات الدولية غير الحكومة، مكانة متقدمة في شكل النظام العالمي الجديد. وبنحوٍ موازٍ، يبدو أن تعافي الصين ونجاتها من الأزمة، بالتزامن مع ارتباك القارة الأوروبية أمام الأزمة، سيساهم في إنعاش مكانتها العالمية والدفع بها نحو قيادة تلك الدفة.