حتى مع وجود رياح الحرب وعدم الاستقرار وتعمق الركود الذي ضرب الكثير من مناطق غرب آسيا وشمال أفريقيا (وانا)، يبزغ فجر أفكار جديدة ضمن الإقليم أو أفكار مقتبسة من الخارج من شأنها رسم الطريق للتغيير الإيجابي. بدأت بعض هذه الأفكار في الظهور من خلال مقالات الرأي الأخيرة لمعهد (وانا)، مع دعوة صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال الشاملة لما يسمى "بنهج جديد ومتعدد التخصصات في التنمية".
وقد صاغ عدد من المساهمين مقالات الرأي تلك، مثل الدكتورة إيريكا هاربر وجوليا أوبراين وكيم ولينكسون لاتمام موضوع صاحب السمو الملكي. وقد سلطوا الضوء على دور المرأة والعدالة والمجتمع المدني وإغاثة اللاجئين والتعافي بعد الصراع، وبينما تصاغ تلك المقالات، يمكننا التخطيط للغد.
.(تشغل مساهماتي حيزا بسيطا من حساب رؤى تلك المقالات، من خلال عملي في الإقليم وما بعده، ومن خلال مصادر أخرى مثل تقارير التنمية العربية البشرية. وبناءا على تلك العوامل، فإنني أدعو الخبرة الدولية لاقتراح أجندة تنمية محتملة لإقليم (وانا
هذه الورقة هي الثانية من أجندة التنمية المقترحة المكونة من ورقتين منفصلتين، الأولى وعنوانها " ثلاث مبادرات حول الإصلاح والقانون والمرأة" بحيث تقترح وجود هيئة تسلط الضوء على الإصلاح الشامل وإعادة الإعمار طويل الأمد، وهي مبادرة تمكين قانوني تسلط الضوء على استخدام القوانين والحقوق بشكل محدد لاحداث النفع للفقراء والأقل حظا، وغيرهم من السكان، وفيها أيضا مبادرة أخرى لتقديم المنفعة للمرأة بشكل خاص (ومن خلالها) الاقليم بشكل عام.
تقدم هذه الورقة سلسلة من النهج والأنشطة المكملة للمبادرات الثلاث:
المجتمع المدني في سياقات التنمية المستقرة. يجب على الهيئة والمبادرتين وتمويل الجهات المانحة والأنشطة الأخرى أن تركز على دعم المجتمع المدني الإصلاحي، حيثما أمكن في الدول المستقرة نسبيا. وعادة ما تعتبر المنظمات غير الحكومية الخاصة بالتمكين القانوني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المجالات، حاضنة التغيير التي تقدم وتنفذ أفكارا جديدة. وبشكل أكثر توسعا، كما هو الحال في بنغلاديش وغيرها من المجتمعات، فغالبا ما تقدم الخدمات الصحية و الاجتماعية والعدلية وغيرها من الخدمات بشكل أكبر من البيروقراطيات الحكومية.
من الواضح أن بعض حكومات اقليم (وانا) قد تخاف وتقيد من أنشطة المجتمع المدني المستقل. ولكن من الممكن في بعض الدول أن يسمح التركيز على مجال معين – البيئة أو الصحة أو الحالة المعيشية للمرأة أو المسائلة عن تقديم الخدمات الحكومية المحلية مثلا – ان كانت قادرة على دفع الاستقرار والرفاه المعيشي بطرق ودية. وفي السياقات التي توجد فيها بعض مجموعات المجتمع المدني الرجعية أو عنيفة في الواقع، أو التخريبية، فلا يكون الجواب بسحق و رفض التمويل لجميع المنظمات غير الحكومية والحركات ولكن لا بد من المتابعة مع توخي الحذر. ويتم ذلك من خلال وجود وسطاء موثوق بهم مثل المنظمات الدولية فهي في الحقيقة عبارة عن قضية ممارسة للتنمية السليمة.
المجتمع المدني في السياقات الانتقالية. يمكن تقديم المساعدة للدول للمضي قدما نحو مسار أكثر ازدهارا وديمقراطية في مرحلة ما بعد الصراع وفي غيرها من الظروف الانتقالية حيث تتوفرالمساعدة الدولية والمشورة ،سياسيا وماليا لدعم دور المجتمع المدني. وهناك فائدة في بعض تلك السياقات وهي انه ومع وجود ذلك التغيير المستمر، هناك فرص لتأمين ترتيبات طويلة الأمد تسمح للمجتمع المدني في المساهمة بالتنمية السياسية والقانونية والاقتصادية الاجتماعية. تعد المجتمعات المدنية في تلك الدول بسيطة للغاية بحيث لا تستطيع تحمل برامج كبيرة لوحدها، لذا تستطيع المنظمات الدولية المشاركة معها ومساعدتها على النضوج وبلوغ الهدف، وهكذا كانت الحال في كل من مرحلة ما بعد الحرب في سيررا ليون وليبيريا وكمبوديا وغيرها.
التنفيذ القانوني. ينطوي التنفيذ القانوني على جهود متعددة لضمان نفاذ القوانين الجيدة المكتوبة على أرض الواقع. وبالرغم من أن مساعدات التنمية الموجهة للقانون تركز على إصلاح القوانين ومؤسسات الدولة القانونية، إلا أنها تميل إلى التغاضي عن تحدي تنفيذ تلك القوانين. وتسلط الخبرة الدولية شاملة مجموعة من بحوث التمكين القانوني الضوء على الأدوار الفاعلة المتعددة التي يمكن للمجتمع المدني و اللاعبين غير الحكوميين (الإعلام والأكاديميا) أن يلعبوها لدعم وتعزيز عملية النفاذ.
المساعدون القانونييون. يعتبر المساعدون القانونييون – محامون - وفي بعض الأحيان موظفيي منظمات غير حكومية وأحيانا أخرى متطوعيين بغير أجور (مدربين من المنظمات غير الحكومية) من المجتمعات التي تعمل فيها- يساعدون الناس في فض النزاعات وحيازة الأرض وقضايا أماكن العمل وقضايا النوع الاجتماعي وقضايا الشرطة وغيرها. يتبين من دراسة البنك الدولي والبحوث الأخرى القادمة عبر العالم، أنها مجالات مشهورة وفعالة من ناحية التكلفة لتقديم الخدمات العدلية للفقراء والتنفيذ القانوني. وعلى الرغم من كونهم في بعض الأحيان موظفين حكوميين يتلقون الدعم والتمويل من جهات حكومية، إلا أن التجارب في باكيستان واندونيسيا ومالاوي والإكوادور وغيرها من الدول تثبت أنهم يعملون بشكل مستقل وأكثر مرونة خلال عملهم مع مجموعات المجتمع المدني.
الأنظمة العدلية التقليدية. لا تتألف الأنظمة العدلية السائدة على مؤسسات تابعة للدولة في العديد من دول العالم خاصة في المناطق الريفية. بل توجد منتديات مجتمعية تقليدية تتوسط او تحكم في النزاعات المحلية. وغالبا ما يفضل الناس تلك الاجتماعات على المحاكم لأسباب مبررة ألا وهي ملائمتها للوضع وقلة الكلفة والشمولية. ومن المعلوم أن تلك المنتديات يمكن أن تنطوي على تحيز جندري كبير، وتأثيرات أخرى بعيدة الأمد وقد يتخلل ذلك شيئا من الفساد (ولا يعني ذلك خلو انظمة المحاكم من كل تلك العوامل بالمطلق). قام المنظمات غير الحكومية في بنغلاديش واندونيسيا وغيرها بتنفيذ عدد من الاستراتيجيات للمحافظة على أفضل ممارسات الأنظمة العدلية التقليدية، بينما عملت على التخفيف من أكثر صفاتها قسوة. ينبغي على مبادرات التمكين القانوني الخاصة بالمرأة استكشاف هذه الخبرة.
الجيل الجديد. تتدفق الأفكار الجيدة والطاقة والعطاء المكرس من أي مجتمع بالأغلب من الشباب الباحثين عن الحلول الجديدة للمشاكل القديمة. يجب ان تركز الأجندة المقترحة تبعا لما سبق على توسيع أفق الشباب والفرص أمامهم. ويشمل ذلك البرامج وعمليات تبادل المعلومات والخبرات والمؤتمرات (المحلية والدولية) التي توفر لجيل من جديد من الطلاب والمهنيين والممثلين الواعدين عن المجتمعات الأقل حظا، الفرصة لتطوير وتعلم أفكار جديدة لخدمة مجتمعاتهم.
التعافي من الأجندات التقليدية. يفرض جزء من الحكمة التقليدية التي هيمنت على الخطاب التنموي على المجتمع الدولي أن يستثمر في إصلاح وتقوية المؤسسات الحكومية مثل الهيئات القضائية والبرلمانات، وقوات الشرطة. وبالرغم من وجود استثناءات قليلة، إلا أن تلك البرامج المنبثقة من هذه الحكمة المزعومة انتهت بالفشل الذريع. على سبيل المثال، حسبما أفاد التقرير الأخير الصادر عن مسؤول حكومي بريطاني، فقد كان أداء الجهود الحكومية الأمنية لوزارة التنمية الدولية المتعلقة بالأمن والعدالة ضعيفا جدا. ( كان الاستثناء الايجابي الملحوظ من تلك الوزارة هو تركيز جهود المجتمع المدني على العدالة المجتمعية والمرأة والفتيات). وكما أشرنا في السابق من خلال بنود الأجندة، من الضروري التخلي عن تلك الحكمة التقليدية التي تضيق الأفق وتولد نتائج عكسية من خلال تعليق الأهمية على النهج التقنية والميكانيكية غير المنتجة.
لا تعني رسالتي هنا أن الدعم لمؤسسات الدولة لا يجدي نفعا، إنما يجب ان تكون العملية ماضية بشكل إنتقائي، وتتلائم مع دعم المجتمع المدني حيثما أمكن. ويجب أن تستكمل البنية الهيكلية الخارجية الحكومية بأوتار المسائلة والخدمة الممتدة إلى هيكلية المجتمع المدني. وبشكل أوضح سيستفيد الإقليم بأسره إلى الحد الذي يقل تركيز المساعدة فيه على مؤسسات الدولة وتزيد على المجتمع المدني، والمرأة، وأمور مقترحة أخرى هنا، والعديد من المقترحات التي ستظهر من المبادرتين والهيئة. وهذا ما يقودني إلى النقطة الختامية...
الواقعية والمدى البعيد. بالنسبة للدول التي هاجمها عدم الاستقرار والركود أو القمع، هل تقترح الأجندة هنا فرصة النجاح؟ يثير هذا التساؤل تساؤلا آخر: بالمقارنة مع ماذا؟ مع ذكر الوضع الذي يمر به الإقليم، فقد مرت عقود من برامج الدعم الدولي التقليدي غير المتواني في إقليم (وانا) أثبتت من خلالها ضعف أدائها. وقد أعطت بعض المجالات نتائج عكسية، من خلال التقليل من التمكين القانوني للمرأة والتقليل من جهود الإصلاحيين طويلة الأمد التي كان لها بالإمكان تحسين حالة الناس المعيشية ومسائلة الدولة.
ولكن الإجابة العميقة التي تجيب على تساؤلي تبقى هنا: سواء كانت تدريجية أو مفاجئة، أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فقد قدمت التغيرات الإيجابية التي بدت مستحيلة قبل عقود المنفعة لمليارات الناس في الصين والهند واندونيسيا واوروبا الوسطى وأمريكا اللاتينية وغيرها. فالتنمية اذا تقاس على المستوى البعيد. حتى لو عملنا كل ما بوسعنا، وأينما كان ذلك – من خلال تغذية أفكارنا من إقليم وانا ودعوة الخبرات الدولية- لا يمكن لذلك أن يغير الإقليم بين ليلة وضحاها. ولكن ذلك كفيلا بتغذية التقدم الموجود اليوم تمهيدا لطريق الغد.