أدى ظهور نموذج التنمية القائم على حاجة السوق الى تدهور الثروات الطبيعية للعالم واستهلاكها. فمنذ انطلاق الثورة الصناعية, استهلك الانسان معظم كمية الوقود الاحفوري غير متجددة والتي تشكلت على مدار الـ 250 مليون عام الماضية, وقد تم ذلك بإسم التطور الاقتصادي. وإذا كان الانسان سيستمر على هذا النموذج من التنمية "النمو من اجل النمو", فإن الارض لن يكون بمقدورها الاستمرار بتوفير الخدمات التي يقدمها النظام البيئي لأجيال المستقبل. إن التحدي الاكبر هو ان النماذج القائمة على حاجة الاسواق تفتقر الى الرقابة والتوازن, فالاسواق لا تقدم لنا الحقائق حول البيئة كما أن الدخل القومي الاجمالي بصفته مقياس للنمو لا يعكس ثروة الشعوب وصحتها, وكنتيجة لذلك فإن عملية صنع القرار الانساني تعاني من فقدان للذاكرة البيئية إضافة الى نقاط عمياء او ما يسمى "اضطراب نقص التعامل مع الطبيعة".
تكشف هذه التوجهات البيئية العالمية بان المجتمع على حافة تغير بيئي لا رجعة عنه. إن تحويل المجتمع والاقتصاد العالمي الى نموذج مستدام يعتبر التحدي الاهم في القرن الواحد والعشرين, وتعرف هذه الحالة من عدم التوازن في الاسلام بمصطلح "الفساد". حيث ان علم البيئة يقوم على التكامل والتعلم الاجتماعي, وتعتبر التنمية المستدامة منبر محايد للحوار بين الثقافات في الغرب والشرق. إن وسائل تسخير المعرفة المحلية والمعايير الثقافية للتعريف بالاستدامة يجب ان تحظى بالتشجيع , فالاسلام بعالميته وبصفته اسلوب حياة قادر على ان يقدم رؤى جديدة فيما يتعلق بالبيئة الانسانية ضمن اقتصاد اسواق العولمة,ولا تقتصر هذه النظرة العالمية على التعريف بما يؤسس لمفهوم الحياة الطيبة فقط, وإنما تستطيع ان توجه الاصلاح لنموذج التنمية الحالي, تقوم نماذج التنمية في الاسلام على مبدأ "الزُهد", ويمكن ان تقدم لنا إطار يحدد اثارنا البيئية, كما يمكن للاسلام ان يضيف بُعد رابع للنموذج السائد للاستدامة بالإستناد الى البيئة والمجتمع والاقتصاد, ألا وهو الايمان والروحانيات. يقدم الخطاب الاسلامي شعور بالتفائل حول امكانية اعادة توجية البوصلة الانسانية.
((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) سورة الروم :41
لقد تم صياغة اهداف التنمية المستدامة لمعالجة التحديات المحلية, بما في ذلك الفقر والبطالة وانعدام الامن الغذائي وعدم المساواه بين الجنسين ومعدل الوفيات من الامهات والاطفال ومدى توفر ماء الشرب والفجوة بين المناطق الريفية والمدن وبين الفقراء والاغنياء. ويبقى السؤال الاهم هو كيف يمكن ان يسهم القادة المسلمين في معالجة هذه القضايا التنموية؟
احد اهم خصائص اجندة ما بعد عام 2015 انها تقدم اطار للاستجابة للحاجات الطارئة والتحديات بطريقة مبتكرة تجمع بين الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية من جهة ومبادىء الحكم الرشيد وحقوق الانسان والعدالة من جهة اخرى. مرة اخرى يجدر القول ان القيم والثقافة الاسلامية تستطيع ان تلعب دوراً اساسياً في معالجة هذه التحديات.
المطلوب هو قيادات اسلامية تحولية لتحسين ودعم الخطاب المتعلق بالاستدامة, كما هو متمثل في الاعلان الاسلامي حول التغير المناخي الذي أعلن عنه مؤخراً في اسطنبول, هنالك مجالات كبيرة يمكن للقادة المسلمين الاسهام فيها واغناء هذا الخطاب والتأثير فيه. والمداخل الاخرى قد تتضمن:
1.استغلال الحكمة والمعرفة المحلية للحضارة الاسلامية.
2. تفعيل نماذج التنمية المحلية مثل "الحِمى" و"الوقف" من أجل التنمية.
3. الاشتراك في الحوارات العالمية للاديان والمعتقدات, بهدف دعم التنمية المستدامة.
4. الدعوة الى تغيير السياسات, فعلى سبيل المثال, تستطيع القيم الاسلامية وتعريفها لمفهوم المصلحة العامة ومبدأ "لا ضرر" ان تنبه سياسات التنمية للممارسات التي تمثل التدخل الخطير في النظام المناخي.
وبنفس الوقت فإن على القادة المسلمين مسؤولية فتح هذا الحوار للعموم عبر مفهوم المواطنة العالمية في الاسلام او مفهوم "الامة الوسط". فالقران الكريم يزخر بالامثلة على الادارة البيئية الرشيدة, ومن الامثلة الواضحة على ذلك تعاليم الرسول محمد عليه السلام وممارساته, وهو الذي كان يمقت الاسراف والتبذير, ويُظهِر تعاطفه مع الجميع, ويحث على زراعة الاشجار والقيام بالاعمال المنتجة. فيجب على مسلمي العالم البالغ عددهم 1.6 مليار مسلم ان يتسلحوا بالمسؤولية لتوجيه القوة الاخلاقية والروحانية للاسلام نحو بناء حضارة انسانية مستدامة ومستقبل مرن.
المؤلف:
الاستاذ الدكتور عودة الجيوسي, استشاري مستقل متخصص بمواضيع الاستدامة والتقنية والابتكار. سبق له ان شغل منصب نائب رئيس الجمعية العلمية الملكية للعلوم والابحاث بالاردن بين عامي 2011-2013. كما شغل منصب المدير الاقليمي للاتحاد العالمي للمحافظة على البيئة –المكتب الاقليمي لمنطقة غرب اسيا والشرق الاوسط بين عامي 2004-2011. له كتاب منشور حول الاسلام بعنوان "الاسلام والتنمية المستدامة", كان يعمل مستشار لكل من البنك الدولي والوكالة الامريكية للتنمية الدولية USAID والمؤسسة الالمانية للتعاون الدولي GIZ ووكالات الامم المتحدة. بريده الالكتروني : odjayousi@gmail.com