كان لي قبل عقد من الزمن حظوةً كبيرةً في الانضمام إلى مجموعة بارزة من العلماء وقادة السياسة بغية إعادة النظر بمسألة تحدي الفقر من منظور أربعة مليارات شخص محرومين من سيادة القانون. تحمل تلك المبادرة الآن اسماً شائعاً يجمع تحت كنفه كافة أعضاء مجتمع التنمية القانوني: لجنة التمكين القانوني للفقراء. ولو رغبنا بتلخيص عمل اللجنة في تعبير موجز، فهو وجود رابط واضح بما لا يدع مجالاً للشك بين كل من الفقر وغياب العدالة والإقصاء القانوني.
وعلى ضوء التوسع الذي شهده التمكين القانوني كنهج برمجي وأداة للسياسة في العديد من الدول والمناطق في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، فقدَ النقاش زخمه الدافع له إلى حد كبير. ربما لم يكن التمكين القانوني كعنصراً أساسياً للتنمية والحدّ من الفقر مُقنعاً في المقام الأول، أو ربما طغت عليه مشاكل أخرى أكثر حتمية، كما الربيع العربي والصراع في سوريا أو آثار التغير البيئي وركود الاقتصاد العالمي. فقد أُهمل موضوع التمكين القانوني ليحل مكانه مناورات سياسية أكثر تفاعلاً واستراتيجيات الاحتواء والتدخلات ذات الحوافز، بدلاً عن اعتباره وسيلةً ابتكارية للاستجابة إلى التحديات الجديدة.
أياً كان تفسيرها، ندرك بأن المنطقة تتعرض لتصدعات تنموية حادة ومتعددة الأوجه، ولكن لازلت مقتنعاً بأنه لابد من تضمين التمكين القانوني كجزء من الاستجابة لها. لقد ثبت بأن عملية صياغة الأهداف التنموية المستدامة لما بعد عام 2015 بمثابة فرصة في هذا الشأن، وذلك من خلال حشد الانتباه والموارد والزخم الملائم على الصعيد الدولي، حيث أكدت وثيقة المسودة الأولية للنتيجة لأجندة ما بعد 2015 بأن العدالة تشكل مكوناً رئيسياً لضمان النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية وتحقيق السلام والأمن والكرامة لكافة أفراد الشعب. ينبغي علينا أن نعكس هذا النجاح على الصعيد الإقليمي والوطني والمحلي. فليس بمستطاع الدول العربية أن تتحمل المزيد من الفرص الضائعة
يمكن وبسهولة تقسيم منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا إلى دول تملك وأخرى لا تملك؛ أي إلى بلدان غنية بمواردها الطبيعية، وأخرى تفتقرها. فالأردن، على سبيل المثال، يفتقر إلى النفط المستخرج وهو البلد الثالث ترتيباً في ندرة المياه بين دول العالم، فالمياه لا تصل المنازل في المُدن الكبرى سوى مرة في الأسبوع ومرة كل 12 يوم في بعض المناطق الريفية. بل نسبة تتجاوز 60% من المياه المنقولة بالأنابيب لا تصل المستخدم النهائي، وندرك أن ذلك الجزء من المشكلة هو بحد ذاته استنزاف غير قانوني
تتسبب المشاكل التي تتعلق بهذا الوضع باقتراف انتهاكات في القطاع الصحي والاقتصادي وسبل العيشة، ويظهر فيها أن سوء الوصول إلى المياه والنظافة يرتبط بشكل مباشر بوفيات الصغار وسوء التغذية وتدني نسب المشاركة في العمل والتعليم، بالإضافة إلى تسببه بمشاكل على صعيد الحماية، كما تهديدات العنف والاعتداء الجنسي. وعند اقتران ارتفاع النمو السكاني مع الاستنفاذ السريع لاحتياطات الموارد الجوفية وتأثيرات التغير المناخي، سوف تتفاقم هذه المشاكل في السنوات القادمة. ولا يسعنا خلال عملنا على إيجاد حلول جديدة سوى مواجهة تحدي ضمان التوزيع العادل لتلك الموارد
إن الحركات الانتقالية في تونس واليمن ومصر وليبيا واستمرار انعدام الاستقرار في سوريا والعراق والصراع غير المحسوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة تترك أثرها على المنطقة برمتها، وذلك بعد أن تعرضت البلدان المعنية خلالها إلى العنف المدني وتعطل الخدمات وتدمر البنى التحتية. في حين ترتب على الدول غير المتأثرة بشكل مباشر أن تشق طريقها عبر التأثيرات الممتدة للصراعات من حولها. تسبب الصراع في سوريا، على سبيل المثال، بارتفاع تدفق اللاجئين إلى كل من لبنان والأردن وتركيا والعراق إلى أكثر من 2.5 مليون شخص، بالإضافة إلى 21 مليون لاجئ ونازح داخلي من باكستان إلى المغرب. فالأردن وحدها تستضيف 63,000 عراقي و560,000 سوري وحوالي 2 مليون لاجئ باكستاني، لتظهر بذلك خطورة مشكلة الاكتظاظ السكاني في المستشفيات والمدارس، ناهيك عن تسبب العدد المتزايد للاجئين في المناطق الحضرية بفرض ضغوط على الموارد العامة كالكهرباء والماء وإدارة المخلفات
ترتبط المجموعة النهائية للتحديات بالبطالة وفرص المشاريع والنمو. وعلى الرغم من ارتفاع معدلات التعليم الثانوي والتعليم العالي في العديد من الدول العربية، إلا أن نسبة البطالة لدى الشباب قد بلغت 22% للذكور، وترتفع لتصل 40% للإناث. في حين يعاني أفراد الاقتصاد غير الرسمي، ممن يشكلون 60% من العمالة العربية، من ظروف عمل غير آمنة (لاسيما في مجالات الخياطة والعمالة المنزلية)، مع العجز عن الوصول إلى مستحقاتهم، مثل الحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي والتأمين
تتمحور الركيزة الأساسية في كل من هذه المحن حول صعوبة الوصول إلى العدالة، لاسيما من قبل الفقراء والمُهمشين، وخاصةً النساء. لقد استخدمت تلك التحديات التي صاغتها الأصوات الحقيقية من المنطقة لصياغة الإطار الخاص بالأهداف التنموية المستدامة. لا يزال أمامنا أقل من 100 يوم حتى اعتماد برنامج العمل هذا، وسوف نواصل خلال هذه اللحظات الأخيرة التأثير على الأهداف والأغراض والمؤشرات التنموية لما بعد 2015، بغية ضمان أن تعكس الصورة الحقيقية للتجربة العربية. عملت خلال هذه المرحلة بأكملها على الدعوة لتضمين الهدف الخاص بالعدالة والتمكين القانوني في جدول الأعمال التنموي العالمي لما بعد 2015.
:تتلخص الأسباب المنطقية المبررة لهذه الدعوة في ثلاثة عناصر
.1
الاعتراف الواسع الآن بأن العدالة وسيادة القانون هما الركائز الأساسية للتنمية الفعّالة والشاملة. فقد أظهرت مراجعة للتقدم التنموي على مدار السنوات الأربع عشر الماضية بأن الدول التي تطبق القوانين المشروعة وآليات تنفيذ موثوقة قد حققت نتائج أفضل في مجال توسيع فرص النساء والمجموعات المهمشة للمشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية. وفي المقابل، واجهت البلدان التي تغيب فيها أطر العمل القانونية المشروعة والشفافة صعوبةً أكبر في تحقيق أهدافها في مجال الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماع
.2
دعونا نفكر بالبديل، حيث تظهر العواقب التي يتركها التمكين القانوني الضعيف بأنها عملية وموهنة. فعند العجز عن ضمان حقوق الملكية والهوية وغياب القوانين التقدمية ونظام التنفيذ الموثوق، يتعذر على الأفراد الوصول إلى الخدمات الأساسية وتنفيذ الأعمال والحفاظ على الأملاك أو حماية سُبل المعيشة الخاصة بهم. وفي ظل غياب فرص إنهاء التظلمات وحفظ الحقوق على النحو العادل، يزدهر الإجرام والاستغلال
.3
يتصدر منح الأولوية للعدالة في جدول الأعمال الدولي مكانته كقاعدة مُلزمة، حيث لابد من تطبيق التنمية على نطاق أكثر عدلاً وشموليةً. فما الفائدة من زيادة فرص العمل والوصول إلى الرعاية الصحية أو الحدّ من عدد الأفراد غير القادرين على الوصول إلى خدمات الصرف الصحي، إن لم يكن هناك إمكانية في التشارك بتلك المكاسب بشكل عادل أو زيادة الفاصل بين أصحاب المزايا والمهمشين؟
أثمر الضغط المستدام ترسيخ إدراج كل من العدالة وسيادة القانون ضمن جدول الأعمال؛ ليشكل تبني هذه الأهداف معلماً بارزاً، رغم أنها مجرد البداية لخطوات لاحقة عديدة لابد من اتخاذها لضمان تحقيق التغير الفعلي. تصوغ الأهداف التنموية المستدامة المبادئ التوجيهية التي يجب تنفيذها على الصعيد الوطني، وامتلاكها على الصعيد المحلي. واستعداداً لهذه الخطوة، دعوت الشهر الماضي إلى اجتماع يضم ممثلين من الحكومة والمجتمع المدني، وكذلك الأصدقاء الإقليميين لمناقشة إمكانية الانتقال بالعدالة إلى ما يعود بالفائدة على المواطنين العرب والمنطقة. لقد مهّد هذا الاجتماع للبدء بحوار لابد وأن يستمر مع انتقال أهداف التنمية المستدامة إلى مرحلة التنفيذ الوطني. وكذلك يترتب علينا أن نضع إطار العمل اللازم حيز التطبيق لنتمكن من تعقب مستوى التقدم الذي أحرزناه كأمة، ونضمن تسخير الاستثمارات للعمل على تحسين مزايا العدالة لكافة المواطنين، لاسيما الأكثر فقراً. إننا إذ ندفع الحوار العالمي ليركز على تحديد المؤشرات العالمية للعدالة، ينبغي علينا ألا نغفل ضمان إعداد مؤشراتنا الوطنية ذات الصلة والمتعلقة بالجهود الخاصة بنا
تتجلى في الواقع العديد من القضايا المتداخلة والمُلحة عند إعدادنا لصيغة الأهداف التنموية لما بعد عام 2015، ويبرز، كما الحال دائماً، صعوبة في ترتيب الأولويات. بيدَ أنها لن تقلل من شأن الأدلة التي تربط التنمية القانونية العادلة مع مساعي الحدّ من الفقر. فقد لا تكون هذه الروابط واضحةً كما تلك المرتبطة بالصحة والاستثمار الأجنبي وإيجاد فرص العمل، ولكن لو أن تلك المهمة سهلة والروابط واضحة، لكان الفقر شيئاً من الماضي
إننا نحتاج إلى أن نعكس العدالة والتمكين في الهيكل المعماري الجديد للتنمية الدولية على نحوٍ كافٍ. فالعدالة هي المقصد بحد ذاتها، وهي المتطلب المسبق لتنفيذ الأهداف التنموية الأخرى، بل إنها الشيء الصحيح الذي ينبغي علينا القيام به. ليس بمقدور منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا أن تتحمل 15 سنة أخرى دون إدراج العدالة في طليعة جدول الأعمال الدولي. فالتكاليف التي يتكبدها الأفراد فيما يتعلق بالكرامة الإنسانية والأمن البشري هي ببساطة مرتفعة جداً
دعونا لا نغفل حقيقة أن هذه العملية لن تنتهي في شهر أيلول، بل إنها مجرد بداية انطلاقة هذا العمل. وبهذا يُعزى السبب الذي يدفعني للاستمرار بالدعوة إلى إعداد صيغة أصلية للوضع العربي، ذلك أنه لا يزال أمامنا طريق طويل، نحتاج خلاله إلى تحليل حذر، وداخلي المصدر لكيفية بلوغ هدفنا. ليس هناك خارطة طريق عربية ملحقة بالأهداف التنموية للألفية، وهكذا، لن يكون هناك أيضاً أية خارطة طريق ملحقة بالأهداف التنموية المستدامة. فالمنطقة تحتاج إلى وضع خارطة الطريق هذه بنفسها، وهذا ما يتطلب تقييماً صريحاً للمنطقة والقيود والفرص فيها وكذلك للتداخلات الفوضوية بين الأهداف. فتحديات العدالة التي تواجهنا لن تنتظر طويلاً
:يبرز هناك خمس نقاط جوهرية ضرورية لوضع الأساس المتين للتمكين القانوني في المنطقة العربية
.1
يلزمنا أن نبحث على نحو حاسم في السبب الذي لم يمنح التمكين القانوني أهميته هنا كما حصل في العديد من مناطق أخرى حول العالم. لأكون صريحاً، تراودني الشكوك بأن السبب هو أننا لا زلنا بحاجة للإجابة على سؤال "ولماذا نهتم؟!"
.2
نحتاج إلى تطبيق استراتيجيات واقعية للانتقال إلى ما وراء الاقتصاد السياسي الذي ينشر آفاته حالياً على عملية التقدم نحو التمكين القانوني
.3
يلزمنا العمل على ترسيخ مساحة عمل أوسع نطاقاً وأكثر تحرراً في المجتمع المدني، ذلك أن موضوع التمكين القانوني يظهر كمشكلة أكبر بكثير عما يمكن للحكومة أن تتكبدا وحدها. لابد من دعوة المجتمع المدني إلى نقاشات تنموية بصفتهم شركاء متساويين، لهم رؤى فائقة القيمة عن التحديات التي يواجهها المهمشون عند صياغتهم للاستراتيجيات رفيعة الأثر
.4
نحتاج إلى منح الأولوية في عملنا إلى تطوير القاعدة المعرفية الإقليمية القادرة على دعم مستوى الإبداع المطلوب لمواجهة هذه التحديات
يُمثل التمكين القانوني فرصةً تفاعلية وواقعية وآنية لمجابهة العديد من التحديات التي تواجه بلدان منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا. إنها ليست بالعصا السحرية، ولكن لابد من تمكين الأشخاص العاديون من تحميل أصحاب الحقوق بالمسؤولية. ينبغي أن يحظوا بالقدرة على الابتكار وإطلاق الأعمال، ولابد وأن يتمكنوا من حماية أنفسهم من الاستغلال وسوء المعاملة: فالمفترض للقانون أن يجعل الحياة أكثر سهولة، دون أن يفرض المزيد من العقبات التي ينبغي علينا تجاوزها. إن تطبيق الأهداف التنموية المستدامة هي إحدى الطرق الضرورية للبدء بتغيير مقاربتنا، فلابد من ضمان تنفيذها بطريقة تعكس السياق والأولويات الوطنية لدينا
يتصف الأشخاص في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا باجتهادهم في العمل واعتيادهم على تنوع الثروة. بيدَ أني قد التقيت للتو بفقير كل ما يسعى إليه هو الانتفاع المجاني. يبحث عن فرصة، بل عن فرصة عادلة. لنمنحهم الأدوات والهيكل اللازم للدفاع عن حقوقهم، وسوف نضمن الحصول على الكثير من الردود لمشاكل استدامة الموارد والحماية والإبداع ونمو الأسواق الجديدة