إن الاستثمار في التنمية البشرية أمر ضروريٌّ لبقاء الأردن، ومع ذلك فإن السياسة الاقتصادية العالمية لم تُعرها الاهتمام الكافي. هل يمكن للنموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي تُقدّمه المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أن يفسح المجال أمام تطورٍ متزامن في القطاعات الاجتماعية؟
تأسس صندوق النقد الدولي (IMF) في عام 1944 لتعزيز التعاون الاقتصادي والمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وقدّم مساعداتٍ اقتصادية ومالية وتقنية للبلدان النامية في جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين. ويستند الصندوق في شرعيته على الإيمان بوجود سلسلة اقتصادية عالمية، ويمكن حينها أن يؤدي انهيار اقتصادٍ واحدٍ إلى التأثير في باقي اقتصادات العالم وفقاً لنظرية تأثير الدومينو.
يوفر صندوق النقد الدولي التمويل للبلدان النامية مقابل إصلاحات سياساتٍ نيوليبرالية تدعم الخصخصة ورفع القيود عن سوق العمل والتقشف المالي لتعزيز الترابط الاقتصادي العالمي الذي يتجاوز الرقابة الحكومية.
تكمن المشكلة في النموذج الاقتصادي النيوليبرالي في أنه موجه نحو أهداف مالية متوسطة الأجل وليس لأهدافٍ اجتماعية طويلة الأجل. إن الافتراض بأن النجاح الاقتصادي الذي يعتمد على منافسة السوق الحرة والتقليل من التدخل الحكومي يعمل على تعزيز نقل السلطة إلى نخب الشركات، تاركاً الفئات الأضعف اجتماعيّاً واقتصاديّاً بدون شبكات الأمان التي توفرها الحكومات عادة.
إن بناء نظام اقتصادي عالمي على هذه الأسس أمر خطير، ويتجاهل القيمة الهائلة لرأس المال البشري. وعلاوةً على ذلك، يبدو أن هذه السياسات تطبق دون اعتبار يُذكر للسياق المحلي والتحديات الهيكلية للبلدان المتلقية للدعم. على الرغم من التحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي في بعض البلدان، إلا أنّه يمكن انتقاد سياسات صندوق النقد الدولي لتأثيرها الضار على الرفاه والرعاية الاجتماعية.
امتدت علاقة الأردن مع صندوق النقد الدولي لمدة 30 عاماً ضمن أُطر برامج تحرير اقتصادي موجهة. مدت الحكومة أول دعوة رسمية لصندوق النقد الدولي في عام 1989 استجابة لأزمة ميزان المدفوعات الحادة والمشاكل الاقتصادية الكلية الهيكلية في ذلك الوقت. وافق الأردن على سياسة ائتمانية أكثر تشدداً بالإضافة إلى إجراء تخفيضاتٍ كبيرة في الإنفاق الحكومي وإصلاحاتٍ ماليّةٍ مقابل الحصول على الدعم المالي.
ﻭﻗﺪ ﺧﻠﻒ ﻫﺬﺍ البرنامج -ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺳﺘﻤﺮ في الفترة (١٩٨٤-٢٠٠٤) - برنامجٌ ﺁﺧﺮ في الفترة (٢٠١٢-٢٠١٥)، ومن ثم برنامج تسهيل الصندوق الممدد(EFF) في الفترة (٢٠١٦-٢٠١٩)، وقد تم اعتماد هذين البرنامجين للمساعدة على التعافي من الصدمات الخارجية، واستعادة الاستقرار الاقتصادي.
بيد أن تأثير هذه البرامج كان ضاراً للجودة العامة لحياة للأردنيين. وكانت الاحتجاجات ضد السياسات الاقتصادية المدعومة من صندوق النقد الدولي مستمرةً منذ عام 1989 كرد فعلٍ على تدابير التقشف وتآكل نظام الرفاه والرعاية الاجتماعية في الأردن، الذي شمل دعم السلع الأساسية ودعم قطاعات التنمية الهشة مثل الزراعة والبنية التحتية - الكهرباء والماء بشكل رئيسي.
وقد تجلى هذا الغضب مؤخراً في الاحتجاجات التي حصلت في أوائل ديسمبر 2018 بعد أن وافق البرلمان على قانون جديد للإصلاح الضريبي، والذي يتضمن خفض الحد الأدنى لأجور الموظفين الخاضعين للضريبة، والذين يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة في الأردن. يشبه القانون الجديد القانون الذي كان من المقرر إصداره في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، والذي إلى جانب ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء، ساهم في تأجيج أسبوعٍ من الاحتجاجات في مايو-يونيو 2018 والذي نجم عنه استقالة رئيس الوزراء هاني الملقي.
وقد لوحظت الجهود الرامية إلى حماية الفئات ذات الدخل المنخفض من آثار التكيف المالي عن طريق تحديد أرضية إرشادية بشأن الإنفاق الاجتماعي في إطار برنامج تسهيل الصندوق الممدد الحالي. ومع ذلك لم يتم ترجمة هذا الوعي إلى واقع، كما أنه لم يعكس الفهم الكافي للهيكل الاجتماعي-الاقتصادي التاريخي في الأردن.
تم بناء الأردن الحديث على أساس عقد اجتماعي قوي بين الدولة والشعب. وقد استثمر جلالة المغفور له الملك عبد الله الأول بشكل كبير في الرعاية الاجتماعية من أجل توطيد السلطة وترسيخ حدود شرق الأردن. آنذاك، وفّر الملك عبد الله لعشائر شرق الضفة فرص العمل في جيش شرق الأردن وفي وقت لاحق في الحكومة مقابل الولاء، بالإضافة إلى فرص التعليم للموظفين وعائلاتهم، والخدمات الطبية، والرعاية الاجتماعية.
ثم اتجه إلى نخب التجار الصناعيين لتغطية جزء من العجز العام المتصاعد الناتج عن هذا النظام في مقابل تنازلات ضريبية وترتيبات تجارية تفضيلية. شكل هذا "التحالف" بين العشائر ونخب التجار الصناعيين أساساً لدعم نظام الحكم الهاشمي.
في مواجهة التطورات النيوليبرالية، والاستثمار في البنية التحتية الاقتصادية وتخفيض الإنفاق الحكومي، تم تفكيك نظام الحكم المتمحوِر حول المواطن ببطء. وبالتالي تم إضعاف العقد الاجتماعي، ما أدّى إلى زعزعة ثقة الشعب في الدولة.
وفي استجابةٍ لهذه التحديات دعا رئيس الوزراء الأردني المعين حديثاً، عمر الرزاز، إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يتلاءم بشكل أفضل مع المناخ العالمي المعاصر كأولوية. على الرغم من الضغوط النيوليبرالية، شدد على الحاجة إلى إنشاء "نظام يكون فيه الفرد مركزاً لخطط التنمية، ويضمن للإنسان حقوقه في الحصول على الخبز والحرية".
في أكتوبر، قدّم البنك الدولي أول مؤشرٍ لرأس المال البشري، والذي يُصنّف البلدان وفقاً لمستوى استثمارها في رأس المال البشري بناءً على خمسة مؤشرات صحية وتربوية مرتبطة بشكل مباشر بالإنتاجية، وهي حياة الطفل، الالتحاق بالمدارس، جودة التعلم، النمو الصحي، وبقاء الكبار على قيد الحياة.
وقد تم تطوير هذا المؤشر بعد البحث الذي توصل إليه البنك الدولي والذي يُبيّن أن رأس المال البشري يُساهم في ثلث ثروة العالم، مزيلاً بذلك الاعتقاد القديم القائل بأن الأصول الإنتاجية للأمة تقتصر على رأس المال المادي، والطبيعي، والمؤسسي.
وعلقت كريستالينا جورجييفا -الرئيسة التنفيذية للبنك الدولي- في الاجتماع السنوي للبنك الدولي الذي عقد في تشرين الأول / أكتوبر 2018، قائلةً: "ربما تكون هذه هي أهم علامة ستتركها الاجتماعات في بالي في تاريخ التنمية: إدراك مدى أهمية الاستثمار في الناس [و] أن النفقات الحكومية في الصحة، والتعليم، والحماية الاجتماعية ليست نفقات استهلاك – إنها حقاً استثمار في وقت الذروة".
ولأن أدوار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تعزيز السوق العالمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، فإن إنشاء هذا المؤشر يستشرف تحولاً واعداً للمؤسسات المالية. وبالإضافة إلى الاهتمام بالسياسات الموجهة نحو السوق، يبعث هذا المؤشر الأمل في إعادة اعتبار صندوق النقد الدولي للتنمية البشرية وإيلائها أولوية قصوى في صنع القرار مستقبلاً.
يحمل هذا المؤشر أخباراً جيدة للأردن ويتوافق مع الأجندة السياسية للحكومة، والتي تؤكد على دور التنمية البشرية والقطاعات الاجتماعية كعوامل لا تتجزأ في استقرار البلاد ونجاحها الاقتصادي.