تُعتبر سوريا اليوم ساحة معركة لإحدى أكبر النزاعات الدولية القائمة. فقد نشأ هذا النزاع في العام 2011. وقد تسبّب، منذ ذلك الحين، بمقتل مئات الآلاف من الناس وتهجير الملايين منهم، كما وخرق عددًا من حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانيّة. ومن المتوقّع أنّه سيكون على سوريا مواجهة الفظائع الّتي ارتكبها هذا النزاع وربّما تلك الّتي ارتُكبت خلال سنين حكم عائلة الأسد فيها. إلا أنّه يمكن لسوريا أن تستفيد من النزاعات التاريخيّة وتتعلّم درسًا منها. فالتعامل مع هذه النزاعات يتطلّب عملا تحضيريًّا كبيرًا وتشاورًا يشمل جميع الأطراف المتنازعة وتخطيطًا مسبقًا ودقيقًا.
في الواقع، لجأت المجتمعات، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، إلى اعتماد وسائل سياسيّة لتطبيق العدالة خلال فترة انتقال السلطة السياسيّة. غير أنّ هذه الوسائل لم تصبح موضوع دراسة أكّاديميّة إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانيّة. فقد وضعت الأخيرة أساسًا منطقيًّا لحلّ النزاعات هذه. وقد قضى ذلك بوجوب التعامل مع النزاعات الحادّة وعمليّات القمع السياسي قبل نشوب أعمال العنف، وذلك بهدف إحلال نظام إجتماعي شرعي. منذ ذلك الحين، عرفت هذه التدابير القانونيّة الّتي يجب على الطبقة الحاكمة تطبيقها بالعدالة الإنتقالية.
إلّا أنّ التفكير بتطبيق مبدأ العدالة الإنتقاليّة وغيره من النظريّات الّتي يمكن تطبيقها خلال مرحلة ما بعد الصراع الداخلي السوري قد يبدو سابقًا لأوانه خصوصًا مع تواصل النزاعات في سوريا. في الواقع، تتطلّب برامج العدالة الإنتقاليّة النّاجحة فهمًا عميقًا لعدد من العوامل منها نوع النزاع وهيكليّته القانونيّة ومفهوم العدالة لدى الضحايا والحقائق الجيوسياسيّة. وقد تمّ الكشف عن غالبيّة هذه المعلومات بالفعل. فتعرض وسائل الإعلام يوميًّا الفظائع الّتي ترتكب، وأثبتت المحاكم المحلّية عدم قدرتها على تطبيق مبدأ المساءلة، كما وأثبتت المحكمة الجنائيّة الدولية عجزها في ما يتعلّق بإقامة جلسات حول الملف السوري. بالإضافة إلى ذلك، تشير الأدلّة العائدة لتجارب سابقة حول تطبيق مبدأ العدالة الإنتقاليّة أنّ جمع هذه المعلومات في الوقت المناسب هام لضمان التوصّل إلى حلول شاملة ودقيقة. كما وأثبتت التجارب السابقة أنّ عمليّات تطبيق مبدأ العدالة الإنتقاليّة غالبًا ما يكون سابقًا لأوانه، وأنّ الوقائع الّتي تفرضها مرحلة ما بعد الصراع غالبًا ما تكون ساحات تعجّ بمتنافسين ذات مصالح مختلفة. لذلك، وجب إعتبار تأجيل عملية جمع المعلومات اللازمة لوضع خطّة لتطبيق مبدأ العدالة الإنتقالية إلى ما بعد التوصّل إلى حلٍّ ينهي الصراع فرصة غير مجدية.
بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا لم تتأثّر فعلا بالإتّجاهات العالمية في ما يتعلّق بمبدأ العدالة الإنتقاليّة. إلا أنّ هذا الوضع تغيّر بعض الشيئ منذ إنطلاقة ما يعرف بالربيع العربي. فبشكلٍ عام، نجد أنّ عددًا من الجهات الفاعلة إقليميًّا يستخدم بعض الآليّات والوسائل لتطبيق بمبدأ العدالة الإنتقاليّة غير أنّ اتّباع توجّهات جديدة في هذا المجال قليل الشعبيّة. فتميل البلدان إلى توظيف بعض الوسائل في سبيل التعامل مع الفظائع المرتكبة في الماضي، ومن هذه الوسائل قوانين العفو واللّجان المحقّقة وبعض سياسيات التطهير. في هذا الإطار، من الضروري القيام بأبحاث تحضيريّة عميقة بهدف التعويض عن قلّة خبرة المنطقة في مجال العدالة الإنتقاليّة وإيجاد الآليّة الأنسب الواجب تطبيقها في سوريا وفقًا للظروف الفريدة الّتي تمرّ بها، كما وأنّ ذلك يساهم في السماح بتطوير أسلوب تطبيق جديد يتماشى مع السياق والظروف المحليّة.
أمّا في ما يتعلّق بإدراك أهمّية التخطيط لتطبيق مبدأ العدالة الإنتقالية، فيجب دراسة حالة العراق حيث كان تطبيق هذا المبدأ سابقًا لأوانه، وحيث انتشرت عمليّات التطهير غير المسؤولة، الأمر الّذي أدّى إلى زعزعة أمن واستقرار البلاد. فقد أمرت الحكومة الأميركية المؤقّتة في العراق بحلّ الجيش العراقي بكامل عناصره بعد أيّامٍ فقط على وصولها إلى سدّة السلطة. وقد أدّى تفكيك هذه المؤسسّة العسكريّة المرموقة سابقًا إلى جعل عدد كبير من العراقيين عاطلين عن العمل، بالإضافة إلى تركهم مسلّحين بأسلحتهم ومشاعر سخط وكره قوّية تجاه القوّات المحتلّة. في الواقع، ولّدت هذه الظروف بيئة حاضنة للتمرّد، الأمر الّذي جعل عمليّة السلام في العراق صعبة للغاية. ففي حين أنّ برنامج تفكيك القوى البعثيّة في البلاد كان ليكون وسيلةً لوضع حدّ لسيطرة هذا الحزب السياسي القمعيّة على العراق، عقّدت قلّة التخطيط لهذه الخطوة وعدم كفايته الجهود الراميّة لتعزيز الإستقرار في البلاد.
أمّا في حالة سوريا، فيجب أن يتضمّن التخطيط تحديدًا وتحليلاً للعوامل والمؤشرات الرئيسة المتعلّقة بالوضع في البلاد، وذلك بهدف تقدير قدرة سوريا على إعتماد برنامج خاص لتطبيق مبدأ العدالة الإجتماعيّة. إلا أنّه من المحتمل أن لا تتغيّر بعض هذه العوامل وتبقى كما هي اليوم حتّى خلال المرحلة الّتي تتبع الصراع. لذلك، قد يكون من الأفضل أن يبدأ أصحاب المصالح في سوريا بالتفكير في المواجهة مع أيّ برنامج إصلاحي مستقبلي. كما وتشتمل هذه العوامل على عدم إحتمال قيام محكمة خاصّة بسوريا في المحكمة الجنائية الدولية، وقدرة القضاء في البلاد بالإضافة إلى الدور الّذي تلعبه القبائل في السلطة القضائية السورية، وخصوصًا في جنوب البلاد. بالإضافة إلى ذلك، على المخطّطين أن يقوموا بتقييم عدد من العوامل الديناميكيّة، ومدى تأثيرها على إمكانيّة تطبيق أي برنامج إصلاحي كبرنامج تطهيري مثلا. وتشتمل هذه العوامل على بقاء الأسد في موقع السلطة في سوريا أو في جزءٍ منها. فببقائه في السلطة، يكون تطبيق برنامج شبيه بتفكيك القوى البعثيّة في العراق شبه مستحيلا، الأمر الّذي يجعل عمليّة التدقيق في جداول الأعمال وتحديد خصوصيّاتها سابقة لأوانها. ومع ذلك، يمكن إطلاق مرحلة مبكرة من هذا البرنامج الإصلاحي. ففي هذا الإطار، يمكن تحديد الآليات الممكن إعتمادها بهدف معالجة المشكلات الّتي عانى منها الحكم في سوريا خلال المرحلة الّتي سبقت نشوب النزاع. وتشتمل هذه الآليات على خطوات تطهيريّة وغيرها من التدابير الإصلاحيّة. في الواقع، سيوفّر إعتماد خطوة كهذه الوقت والجهود الواجبة بذلها خلال المراحل اللاحقة من هذا البرنامج الإصلاحي بغضّ النظر عن ما سينتج عنه.
إلا أنّ نهاية الصراعات والنزاعات في سوريا لا تبدو قريبة. مع ذلك، ستؤثّر ظروف الصراع الحاليّة وتلك السياسيّة على القرارات المتعلّقة بإمكانيّة تطبيق مبدأ العدالة الإنتقاليّة في البلاد وكيفيّة تطبيقه. كما وأنّ توقّع توجّه النظام أو الأنظمة الناشئة في سوريا نحو مستقبلٍ مسالمٍ ومستقرّ قد يكون توقّعًا حكيمًا. لذلك، قد تنظر هذه القوى في إمكانيّة تطبيق شكلٍ من أشكال مبدأ العدالة الإنتقاليّة. بالتالي، وجب الإستعداد لهذه التوقّعات، إذ سيكون ذلك هامًّا بهدف النجاح في تطبيق البرنامج هذا وضمان إستقرار سوريا في المستقبل.