اجتمع أكثر من 130 شخصية من أصحاب المصالح من أنحاء المنطقة في عمان في شهر آذار للحوار حول كيفية استخدام الأدلة الجديدة المتعلقة بارتباط السلام المائي لفرض حلول جديدة تلبي التحديات المشتركة. تتسم الأزمة المائية في المنطقة بأنها مثبتة في الأدلة ومعترف بها على نطاق واسع، حيث تظهر فيها نسب توافر المياه العذبة لكل نسمة في الدول العربية هي الأدنى عن نسبتها في أي منطقة في العالم. فأنماط توريد المياه متقطعة في العديد من جوانبها؛ تتسبب بعدم قدرة حوالي 17% من عدد السكان عن الوصول إلى المصادر المحسنة من مياه الشرب (أسوء من النسبة المتوسطة في العالم البالغة 11%)، و20% عدم القدرة على الوصول إلى المرافق الصحية المُحسنة. وتشير الممارسات المائية المضرة – كما مياه الصرف الصحي رديئة التنظيم وسوء التصرف بالمخلفات الصلبة والصناعة غير المنتظمة – إلى ازدياد في تلوث احتياطي المياه الضئيل أصلاً والمساومة في سلامة النظم البيئية. أضف إلى ذلك أن تلوث المياه والتصرف غير الصحي بالمخلفات قد ساهما أيضاً في التسبب بعواقب كارثية على الصحة والفقر في الحضر والإنتاجية المخفضة. تتفاقم هذه التوترات في العديد من البدان عند تدفق اللاجئين، ويزداد هذا الوضع سوءاً دونما شك، فازدياد نمو عدد السكان يزيد من الطلب على المياه، بصورة مباشرة وغير مباشرة بزيادة الطلب على الطاقة والغذاء، يرافقها تأثيرات التغير المناخي، مثل أحوال الطقس الرديء وتسرب مياه البحر التي تتسبب جميعها في تفاقم كل من هذه التحديات.
ولو اعتبرنا أن ندرة المياه لا يمثل تحدياً كافياً يدفعنا للتعامل معه، يظهر أن النزاع الذي يجتاح المنطقة الآن يتسبب بإلحاق المخاطر على هذا المورد الطبيعي الثمين. فقد أضافت أعمال داعش خلال العام الماضي المياه إلى القائمة المتزايدة من أسلحة الحرب التي تستخدمها. ولو أنه لم يتم استرجاع سد الموصل بعد السيطرة عليه من قبل تلك المجموعة، لكانت تسببت بكارثة فيضان على الآلاف. يتوقع الخبراء في السياسة بأنه مع اندحار داعش من العراق، سوف تصبح الموارد المائية في لبنان، مثل بحيرة قرعون، هدفاً أكثر احتمالاً.
هناك اعتراف بأن الموضوع ليس بالجديد كُلياً، حيث شهدت المنطقة نزاعات على المياه ارتبطت بحساسيات سياسية خلال العقود الأخيرة. إلا أن الموضوع الجديد الآن هو كيف بدأ الباحثون باعتبار أن المياه عاملاً معتاداً في النزاع، مقارنةً مع كونه موضوعاً يتسبب بضرر جانبي مسبقاً. ويرى العديد بأن الجفاف الذي حدث في سوريا عام 2006-2011، والذي دفع 1.5 مليون شخص للنزوح من أراضيهم إلى البلدات المجاورة، قد شكل عاملاً رئيسياً في الحرب المدنية. وبدأ الباحثون في جامعة صنعاء يعثرون على أدلة جديدة عن أحداث مشابهة فيما يتعلق باليمن. إننا بحاجة إلى فهم أوضح كيف أن الوصول غير العادل إلى الموارد الرئيسية يمثل عاملاً مثيراً للنزاعات، ليس فقط وحده، وإنما عند ارتباطه بعوامل أخرى مثل اللامساواة في المشاركة بالموارد والمساءلة والوصول إلى الخدمات.
ومع اقتراب موعد المؤتمر، بدا أن أكثر مصدر ملموس يدفعنا للتفاؤل لم يكن متوقعاً: وهو إفريقيا. فقد نشأت منظمة تنمية حوض نهر السنغال عام 1972، بمثابة جهد تعاوني بين غينيا ومالي وموريتانيا والسنغال، بهدف إدارة نهر السنغال وحوض الصرف الخاص به. تشاركت دول المنظمة في جهود تخطيط وتمويل ومراقبة المياه المشتركة في قطاع المياه المحلي والزراعة والطاقة والنقل. وعيّن كل بلد لجانه الإقليمية والمحلية، والتي تجتمع شهرياً لتبادل الخبرة وإصدار القرارات المتعلقة بالحوض. لقد عزا البعض هذه المبادرة عبر الحدود بالمساعدة لإنهاء النزاع الحدودي بين موريتانيا والسنغال عام 1989-1991.
فالسؤال الواضح على نحو مؤلم والذي لم يطرحه أحد هو كيف تمكنت إفريقيا - المنطقة المليئة بتحديات مماثلة في صعوبتها – من إحداث تقدم ملموس، في حين عجزت منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا عن ذلك؟ وهذا بدوره، أثار السؤال عما يلزم القيام به لتحويل المصادر الإقليمية، كما نهر الإردن، إلى ملجأ لنظام بيئي متنوع، كرمز للسلام، وكمصدر لرفاه المواطنين؟ أثار النقاش الذي تبعه ثلاث نقاط هامة:
أولها، ضرورة المبادرة للعمل في موطنك أولاً قبل محاولة المناورة في ميدان التعاون الإقليمي. تحتاج البلدان التي تواجه ندرة حادة ومتأزمة في المياه إلى وضع إطار عمل للسياسة قائم على الأدلة وقابل للتطبيق. ولابد لخطط العمل أن تأخذ باعتبارها الطبيعة ذات القطاعات المتعددة للمياه، بما فيها السياحة والزراعة والصناعة والصحة والحماية الاجتماعية. ولابد أن نعترف بوجود مصالح كبرى مختلفة للمعنيين في سياسة المياه والطاقة والزراعة. ينبغي على خطط العمل الخاصة بالسياسة أن تعالج القضايا الرئيسية أولاً. فعلى سبيل المثال، يمتلك الأردن موارد مائية محدودة جداً، إلا أن البنية التحتية البالية للمياه تشير إلى أن البلد يخسر 76 مليار لتر على الأقل من المياه سنوياً بسبب التسريب، ثم أن السياسة لابد وأن تتطرق إلى المدى الذي تسهم فيه أعمالنا بجعل الوضع السيء أكثر سوءاً، ويتطلب ذلك إحداث تغيرات صعبة، تظهر فيها ضرورة منع أو العقاب على زيادة الضخ فوق مناسيب المياه وممارسات الري غير الملائمة (التي تتسبب بزيادة الملوحة). كما يجب على ممارسات التسعير والإعانات أن تشجع على الاستخدام الفعّال للمياه في قطاع الزراعة، وتكتمل بالتشجيع على الزراعة في محاصيل ذات أداء أفضل وإنشاء أعمال جديدة خارج قطاع الزراعة.
ثانياً، إن التحديات الإقليمية تتطلب حلولاً إقليمية. فإن منطقة غرب آسيا لا تتشارك بالهياكل المائية وحسب، وإنما تتشارك بعدد السكان، وتتشارك بالنظام الغذائي الإقليمي. بيد أن التحدث عن ضرورة التعاون عبر الحدود ليس بالأمر الكافي، فربما قد حان الوقت لوضع صيغة للتحديات المساهمة. وعندما طرحنا على الضيوف من أفريقا سؤالاً عن العوامل الأكثر أهمية في إيجاد بيئة تمكينية للتعاون، ذكروا لنا: (1) الثقة المتبادلة والاستعداد للتخلي عن بعض السيادة حول الموارد الطبيعية، (2) تعزيز التشارك بالمعلومات الشفافة حول مقتنيات الموارد، و(3) اتفاقيات المشاركة بالمياه عبر الحدود والتي لا يصادق عليها وحسب وإنما تكون قابلة للنفاذ قانونياً". لا نرغب بأن نفسد تفاؤلكم، ولكن هل حقاً يبدو هذا ما تقوم به البلدان في هذه المنطقة في وقتنا الراهن؟ إن العنصر المشترك في كل من المتطلبات أعلاه هو الإرادة السياسية، وليس لدينا ما يكفي منها الآن. أضف إلى هذه المعادلة بأن بعض المساهمين الأساسيين منغمسون وسط حرب مدنية أو يصارعون للخروج من هذه الحرب المدنية، والتي يبدو خلالها أن تطبيق أية معاهدة تتعلق بالمياه الإقليمية طريق طويل المنال. يمكننا، كبداية، الاطلاع عن كثب أكثر على الأسباب التي جعلت من الصعب الاستفادة من اتفاقيات المياه بين سوريا والأردن، وبالمقابل، ما هي الحوافز والظروف السياسية التي سمحت للتعاون بين تركيا والعراق أن يشهد نجاحاً أفضل. يجب أن ندرك أيضاً أنه رغم أن الاستقرار السياسي والحوكمة الجيدة والمؤسسات القوية والفعّالة له أهمية جوهرية في إتاحة السُبل نحو التنمية، وكذلك حال السياسة المائية. ومع اقتراب الحكومات من صياغة مجموعة أهداف التنمية المستدامة الخاصة بها، لابد وأن نفكر جدياً حول الدور الحيوي الذي تلعبه إدارة الموارد الطبيعية في الحوكمة الجيدة.
ثالثاً، ينبغي علينا العمل نحو تحويل مستخدمي المياه إلى أصحاب مصالح معنيين بالمياه. فالرسالة الي وصلتنا من زملائنا الأفريقيين تؤكد أهمية امتلاك المواطنين لتلك الأفكار، سواء كان التعاون المائي عبر الحدود أو ممارسات الطاقة الأنظف. لابد من امتلاكهم إحساساً بملكية تلك المصادر المائية قبل التمكن من الضغط على الحكومات لدعم حقوقهم تجاه المياه. بيد أن الأشخاص في الكثير من بلدان هذه المنطقة غير مطلعين على مشكلة ندرة المياه، ولا يدركون الرابط المتداخل بين المياه وتحديات التنمية الأخرى، مثل الطاقة وإنتاج الغذاء، وهم حتماً غير واعين لدورهم ههم أنفسهم في الحماية البيئية. ولهذا السبب، نحتاج إلى التفكير بعناية أكثر حول التحديات الهيكلية والاجتماعية اللازمة لتسهيل تمكين المواطنين بصفتهم سفراء المياه، وتحويل مشاعرهم الحالية من السلبية والقبول بالواقع إلى جيل لديه الرغبة للدفاع عن حقوقه في المصادر الأساسية وتأمين سبل العيش والصحة.
إننا في "معهد وانا" ندرك أن مثل هذا التحول يُعدّ مشروعاً متكاملاً لابد وأن يستمر عبر الأجيال وعبر القطاعات. ينبغي أن نسعى لإدماج شركاء جدد، حتى أولئك غير المحتمل وجودهم معنا. يمكن لعلماء الدين مثلاً لعب دور جوهري في تعزيز ثقافة من إدارة الموارد. كما نبحث أيضاً عما يمكننا تعلمه من النماذج المشتركة في أفريقيا. ففي تلك النماذج، تتحكم المجتمعات هي نفسها بالأرض والموارد المائية والثقافية وبإدارتها، ويتم التنظيم عبر هياكل المجتمع وهيئات إدارة المجتمع، والتي تعمل على صياغة وسائل الحماية للمساواة في مشاركة المصادر وحماية الأعضاء الأكثر خطورةً في المجتمعات. تتسم تحديات الموارد الطبيعية في المنطقة بتغلغلها، ولكن لو أن الحل بسيطاً، لكان قد ظهر لغاية الآن. يجب علينا أن نقاوم رغبتنا في التفكير والعمل بمنعزل عن الآخرين، وبدلاً عن ذلك، نسعى لتعزيز ثقافة من التفكير متعدد التخصصات لإنهاء المشاكل. ولو اعتبرنا أن النظرية الأساسية لعملية السلام الأزرق صحيحة - حيث التعاون المائي يقود إلى تحقيق علاقات أكثر سلميةً بين الدول - فهي حقاً تستحق العناء، حتى بخطواتها غير المتوقعة.