يعشق سومر كريكر الأفلام والسينما...كونها قادرة على فتح آفاقا أمام الناس لإعادة تخيل العالم الذي يعيشون فيه. عندما كان مراهقا، كان يحلم بافتتاح نادي للأفلام في دمشق، فيه تتحول قصص حياة أناس عاديين ومميزين على حد سواء إلى أفلام تعرض على الشاشة الكبيرة. ولكن من بين كل العوائق التي كانت من الممكن أن تحول بينه وبين تحقيق رؤيته، كان اندلاع الربيع العربي في غرب آسيا وشمال أفريقيا عموما، وفي سوريا خصوصا، آخر ما يمكن توقعه.
هكذا ومن دون سابق إنذار وجد سومر نفسه يشهد رفاقه ورفيقاته يعيدون رسم معنى حياتهم، لا في سطور سيناريوهات سينمائية، بل أمام عينيه في شوارع الزبداني والهامة وقدسيا على أرض الواقع. ومضى سومر الذي تربى على القومية العربية وقصص القادة العرب الثوريين مثل جمال عبد الناصر، لينضم إلى صفوف المتظاهرين السلميين، وتعلم حينها –متظاهرا في مدينة تلو الأخرى– أن يرى بلاده بمنظور جديد.
في ربيع 2012، وقع سومر في قبضة المخابرات السورية، وكان حينها في الرابعة والعشرين من عمره. خلال مدة احتجازه، كان يتبادل سومر الآراء والتطلعات حول سوريا ما بعد بشار الأسد مع المحتجزين معه في الزنزانه، كما وتبادلوا أدوار النوم، مستخدمين سترة سومر الممزقة لتحريك الهواء بها محاولين تبريد الجو الحر الخانق. في تلك العزلة، بدأ سومر أن يفهم المرحلة الجديدة التي دخلتها بلاده ببطئ.
عندما أفرج عن سومر بعد شهر من الاحتجاز، واجه هذه المرحلة الجديدة بكل ما تعنيه وجها لوجه. فقد أدرك بأن المدنيين قد تسلحوا وبالتالي كانت البلاد كلها على شفا حفرة من الوقوع في الحرب. ومثل الكثيرين من الشباب وجد سومر نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يحمل السلاح ويقاتل، أو الفرار من البلاد. ولم يتخيل سومر أن بإمكانه قتال أبناء بلده لذا قرر الهروب إلى الأردن، وعلّق سومر على ذلك قائلا: "نحن [يقصد الشعب] لسنا أقوياء كفاية لمحاربة الأسد".
بالنسبة لسومر فقد أبعدته السنوات الثلاثة التي تلت فراره إلى الأردن أكثر عن تحقيق حلمه ومشروعه. إذ وبسبب منعه من الحصول على تصريح عمل، اضطر للعمل بطريقة غير نظامية ولساعات طويلة في المقاهي والمطاعم. ولم تكن "إمكانية حصوله على وظيفة" أمرا يترتب على ابداع مخيلته أو قدرته على ملاحظة جمالية الحياة اليومية للأشخاص؛ بل على العكس، كان وضعه المخالف أو غير القانوني يشغل كلا تفكيره. دون تصريح عمل يتم توظيف السوريون في أعمال متعبة مقابل أجر يقل كثيرا عن الحد الأدنى للأجور. وقد كان سومر مدركا لهذا الواقع الذي يعيشه. ومع تنامي المشاعر المعادية للاجئين في المجتمع الأردني فقد كان السوريون الذين يعملون بشكل مخالف عرضة للتسفير. ولكن وضع سومر لم يكن يختلف عن وضع عشرات الآلاف من مواطنيه وغيرهم من طالبي اللجوء الذين يعيشون في مدن الأردن وتركيا والعراق ولبنان.
وفي آب 2015، لاحت فرصة لانهاء تلك الثلاث سنوات التي قضاها سومر متخفياً، إذ صدر جواز سفر سومر السوري المجدّد ورسم خطة جديدة مع شقيقتيه سلسبيل (20 عاما) ولبنى (15 عاما). إذ خططوا لأن يسافروا شقيقتيه من دمشق إلى اسطنبول وأن يلاقيهم سومر هناك. وحال اجتماعهم قرروا أن يبحثون عن سبيل للوصول إلى أوروبا والتئام شملهم مع شقيقهم الأكبر الذي يقطن في ألمانيا.
سومر و شقيقته الصغرى لبنى في حافلة متجهة إلى رؤية صديق للعائلة في اسطنبول ، 13/9/2015
التقيت سومر لشرب فنجان قهوة في جبل اللويبدة [حي من أحياء العاصمة الأردنية عمّان] قبل سفره، وحاولت ان أعرف إذا كان مدركا بالقصص المرعبة التي يبثها الإعلام عن الأهوال والمخاطر التي تواجه من يحاول عبور البحر المتوسط. وفي محاولة ذلك وقعت في فخ تبني "الموقف الأخلاقي" ضد تهريب البشر وهو ما أعتقدت أنه عمل شرير واعتبرت أنه هناك غموضا حول ما قد يدفع سومر إلى وضع نفسه وشقيقاته في مواجهة هذه الأخطار في حين أن هناك قنوات رسمية بديلة يمكن اللجوء إليها.
لقد كان سومر واقعي اتجاه الامكانية الضئيلة لقبوله لإعادة التوطين. فهو شاب مسلم أعزب، وهذه صفات تجعله من الصعب تصنيفه ضمن الفئات المستضعفة، بل على العكس فإنه يجسد الفئة السكانية غير المرغوبة. أضف إلى ذلك معرفته بأن الدول الغربية لا ترغب باستقطاب صانعي الأفلام الطامحين بل يفتحون الأبواب أمام النساء اللواتي بدون مرافق والأقليات الدينية والعاملين الحرفيين. وبينما مضى يشرح هذا تذكرت السوريين الذين عرفتهم شخصيا والذين قاموا بشراء هاتف محمول خصوصي ودائما مشحون البطارية انتظارا لمكالمة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين على أمل لإبلاغهم بالقبول في برنامج إعادة التوطين. والآن تحوّل تفاؤلهم إلى أماني وخيال مقارنة لبراغماتية سومر البناءة. علاوة على ذلك، فإن عائلته من منطقة جمريا وهي قرية تعرضت للحصار مرتين حتى تموز العام السابق. ودأب رد سومر للسيناريوهات ذات لا نهاية التي كنت أعرضها له حول المصاعب التي قد تواجهه في رحلته إلى أوروبا قائلا ببساطة: "أنا لا أعرف الوضع داخل سوريا الآن أفضل من والدي لذا فإني أثق بحكمه". بالنسبة لسومر فإن المخاطر التي تحف طريق التهريب لا تقارن بالسيناريو الذي من الممكن أن تمر به شقيقتاه في سوريا.
أدركت حينها بأنه بالرغم من كل قراءاتي واهتمامي بالنزاع السوري فإني ما زلت افتقر للأدوات اللازمة لفهم تحليل سومر للتكلفة والمنفعة. فإن التهجير والعزلة وعدم اليقين المرافقة للحرب والنزوح أشياء لا تعرفها إلا بتجربتها فقط. وفوق كل ذلك، أدركت بأن سومر يتوق للحصول على شيء غير موجود في الأردن أو في سوريا حاليا: إنه يريد الأمل في مستقبل آمن وكريم له ولعائلته. لذا وأثناء متابعتي للتقارير الإخبارية حول القوارب التي تصل الشواطئ اليونانية وتساؤلاتي حول كمية التلاعب بالحقيقة التي تروى، اتخذت قراري بمصاحبة سومر في رحلته إلى تركيا: كنت على يقين بأنه مازال لدي الكثير تعلمه حول اتخاذ الشباب السوريين الخيار والطريق الأصعب لمغادرة المنطقة.
دينا بسلان باحثة أردنية وعاملة إغاثة سابقة. في أيلول 2015 قامت بمرافقة صديقها السوري سومر كريكر إلى أوروبا مختبأة بين اللاجئين للتمكن من فهم ظاهرة الهجرة. وهذه المقالة هي الأولى في سلسلة مقالات توثق لرحلتها.