ظهر هذا المقال لأول مرة في صحيفة جيروساليم بوست بتاريخ 30 تشرين أول 2014.
سمعنا الكثير خلال العام الماضي عن إمكانية وجود سلام عادل وطويل الأمد بين إسرائيل وفلسطين. وعلى النقيض من ذلك، وبعيدا عن بناء السلام، تحيط بالمحادثات مشاهد مروعة شهدناها من غزة والضفة الغربية - أو من القدس مؤخرا - تواصل تركيز إلقاء اللوم على أحد الجانبين أو الجانب الآخر.
أدى الرضا الدولي مع استمرار عدم الوضوح بشأن قيام دولة فلسطينية إلى توليد انعدام واسع يتخلل "مناطق من النظام والفوضى". وهذا هو الزناد الذي يطلق العنان لكل من المتطرفين الصهاينة، الذين هم غير مكتفين بفلسطين وحدها أصلا، بل يتوقون إلى التغلغل في الشرق الأوسط كله، وللمتطرفين الإسلاميين، مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذين يتابعون أجندتهم التوسعية الخاصة.
عندما تم دمج وعد بلفور عام 1917 في ديباجة الإنتداب على فلسطين، التي أنشئت من خلال سلطة عصبة الأمم، انتهك المجتمع الدولي بشكل فعال المبدأ الأساسي في تقرير المصير، الذي كان في صميم عهد العصبة والميثاق اللاحق. وقد عم الشعور بتداعيات هذا الانتهاك منذ ذلك الحين، فقد عم قبل كل شيء في دوائر العنف في إسرائيل وفلسطين، التي ما زالت تزعزع استقرار المنطقة برمتها.
وقد وصل العرب والإسرائيليين إلى مفترق طرق: إما أن نتحرك بعيدا أكثر عن بعضنا البعض، ونسعى لتحقيق المصالح الذاتية التي من شأنها حتما أن تحدث البلقنة الإقليمية المدمرة، أو نتقارب معا، معتبرين إنسانيتنا المشتركة كنقطة انطلاق، نحقق عملية سلام مستدامة تقوم على المبدأ التوجيهي الذي أطلقه الرئيس وودرو ويلسون في تقرير المصير.
سيكون النجاح مبنيا على التعامل أولا مع تعنت المتطرفين، سواء المتشددين الإسرائيليين الذين يصرون على أن الله وهبهم الحق في الأرض التي تتضمن جنوب بلاد الشام بالكامل، أو بالمقابل هؤلاء العازمون على "دفع اليهود الذين يعيشون في وسطهم إلى البحر" والذي يحجبون فيما بينهم حاليا أي احتمال لإجراء مفاوضات ناجحة في المستقبل القريب.
وبدلا من إعادة اختراع العجلة، قد يكون من المفيد الانطلاق من إعادة النظر في نقاط القوة والضعف في المبادرات السابقة (التي أقصي الكثير منها جانبا بشكل مبكر).
في حين أن الأردن لا يتفاوض نيابة عن الفلسطينيين، فإنه لابد من كونه منخرط في عملية السلام لأن لها تبعات سياسية وأمنية وتداعيات اقتصادية وديموغرافية عميقة على البلاد. وباستضافة أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين، أصبحت "القدرة الاستيعابية" للأردن محدودة بشكل متزايد، وخاصة في ضوء الموجات الجماعية الأخيرة من اللاجئين من العراق وسوريا. ويعتبر رفض إسرائيل للامتثال للمسؤوليات الإنسانية الواردة في القرار 237 بمثابة تذكير بأن سيادة الأردن وسلامة أراضيه لا ينبغي أن يكون ثانويا مقارنة مع مثيلها بالنسبة إلى اسرائيل.
وفي جميع أنحاء المشاركة الرسمية للأردن في مفاوضات السلام، أكد الإسرائيليون، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي أو موقفهم الأيديولوجي، أن الأردن ليس لديه مطالب في الضفة الغربية. فقد حصل ضم الأردن للضفة الغربية في عام 1950، كما يقولون، على الاعتراف من قبل بريطانيا وباكستان فقط. و، بعد، كما اعتدت أن أقول دائما للمفاوض الإسرائيلي، "هذا أكثر بضعفين من الاعتراف الذي حصلتم عليه أنتم". ومع ذلك، لا يزال الوضع القانوني لأراضي المنطقة دون حل.
وهناك عدد من الخيارات من الجانبين والتي عرضت تنازلات براغماتية تم تجاهلها جميعا في نهاية المطاف لصالح صيغة كامب ديفيد "الحكم الذاتي التدريجي" خلال فترة انتقالية لمدة خمس سنوات.
وقد تغلب ذوي القناعات الدينية المتطرفة على المعتدلين من كل جانب وتركوا لمعالجة القدرة الإستيعابية للأرض التي نعيش فيها جميعا. وقد تجاهل هؤلاء المتطرفون في معتقداتهم الضعف والهشاشة في هذه المنطقة، في حين أنهم يعملون من أجل "الدمار المؤكد المشترك" لنا بدلا من التزامهم بالعمل نحو "البقاء المؤكد المشترك".
وتعتبر مشكلة اللاجئين، إلى جانب وضع القدس كما هو موضح في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، القضية العابرة للحدود. وتتطلب التطورات الإقتصادية والإجتماعية اتخاذ نهج متكامل ومتفق عليه بين أصحاب المصلحة. واستغلال الموارد الطبيعية، والطلب المتزايد على الطاقة كلها مجالات من عدم التوازن الحرج التي سيكون السبب الجذري للصراع في المستقبل.
يملي الحد الأدنى من الإجماع، والذي يشكل، في حد ذاته، خطرا لأنه يفتقر لا محالة إلى السلام المستدام، على أنه من غير الممكن المساومة على الأرض إلا في مقابل معاهدة سلام تقليدية. وهذا يفرض الأسئلة الثلاثة التالية:
أولا، إذا لم تكن اثنتين من معاهدات السلام التقليدية -بين مصر وإسرائيل وبين الأردن وإسرائيل-كافية لحل الأزمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، فكيف ومتى يمكننا أن نتوقع من إسرائيل بدء محادثات ذات معنى مع الفلسطينيين وجيرانها العرب؟
ثانيا، إذا أصرت إسرائيل على عدم إمكانية إعادة تقسيم القدس ويجب أن تبقى عاصمة لإسرائيل، فما هي الأرضية المشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو بين اليهود والمسيحيين والمسلمين من الثقافات العربية؟ وقد أدت السياسة القومية لدى جميع الأطراف إلى تسميم الأجواء بين هذه الشعوب الذين كانوا يعيشون بسعادة معا في الهلال الخصيب لعدة قرون. وفي شهادته أمام اللجنة الأنجلو-أمريكية للتحقيق في فلسطين في عام 1946، صرح حاييم وايزمان "لا أود أن أقوم بأي ظلم: لقد العالم الإسلامي تعامل مع اليهود بتسامح كبير. فقد استقبلت الإمبراطورية العثمانية اليهود بأذرع مفتوحة عندما طردوا من إسبانيا، وعلى اليهود ألا ينسوا ذلك أبدا. ومن ناحية أخرى، فإنه ليس من المفيد إخفاء حقيقة أن هذه التقاليد الإنسانية العظيمة تقع الآن تحت ضغط من القوميات الحديثة ".
ترفع الأهمية الروحية للقدس بالنسبة للديانة اليهودية والمسيحية والإسلام إلى ما فوق الجغرافيا السياسية الإقليمية. وبطريقة أو بأخرى، يجب أن تكون القدس مشتركة مرة أخرى بين جميع الأديان الإبراهيمية حتى تكون منطقة سلمية.
ثالثا، كيف يمكن أن أبدا تحقيق سلام شامل عندما لا يتم مطلقا أخذ مؤتمر دولي (مثل مؤتمر برلين أو فيينا) الذي يتضمن كل القوى العظمى، أو حتى اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، على محمل الجد؟ وبالنظر إلى أن السياسات الاقصائية التي يمارسها مجلس الأمن تستند إلى الاستثنائية الإسرائيلية وتلتزم بحماية ممارسات التوسعية والتمييزية لإسرائيل، بدءا من المستوطنات غير الشرعية للانتهاكات المنهجية للحقوق المدنية فإن السلام الشامل يبدو أكثر غموضا ومراوغة من أي وقت مضى. وينبغي أن يكون هذا سببا رئيسيا للقلق.
إننا بحاجة إلى بنية إقليمية جديدة، لا تختلف عن تلك الموجودة في أوروبا في أعقاب اتفاقات هلسنكي: محادثات بناءة، وشاملة، وليس بالتنافس مع الغرب، ولكن، بالاعتراف بخطورة الوضع، بروح من الاحترام المتبادل والشراكة. لا بد من بحث أي تقدم داخل هذه الهيكلية ، في الظروف الحالية، ببطء وبشكل تدريجي وتراكمي وعضوي مع التركيز على القضايا الملموسة المتعلقة بالنزاع.
حتى في الوقت الذي يكرس فيه للمشكلة على ما يبدو طاقة و وقتا غير منقطع وتغطية اخبارية، فإن أي اقتراح حالي بأن ننظر في عملية رباعية منقحة تضم روسيا، تستقبل بالخوف والنقص الملحوظ من الحنكة. ومع ذلك، فإن من شأن هذه العملية تعزيز قوة الموجودين في إسرائيل ممن يقبلون دولة يهودية داخل إقليم أكثر إحكاما مقابل من يطالبون، بدافع الخوف من العرب، مساحة أكبر من أي وقت مضى لإسرائيل.
وربما يكون إعادة لما هو واضح أن أقول إنه لا يمكن لأي عدد من الأسوار أو الدروع توفير الأمن على المدى الطويل.
وفي نهاية المطاف، ينحدر الصراع وصولا إلى السيطرة على المنطقة، ومواردها. ولضمان تقرير المصير للشعب العربي وعدم استغلال موارده، يجب على العرب المشاركة في أي محادثات تتعلق بعملية السلام، بحيث يتم سماع همومهم ومصالحهم. كما قال لي صديقي ذات مرة ، الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال، رحمه الله: "عندما يكون هناك مؤتمر سلام، فإن الأفضل أن تكون على الطاولة بدلا من أن تكون على قائمة الطعام".
لا يمكن إنكار أن الشعور بالإنفصال الذي زرعته إسرائيل وأولئك الذين في واشنطن ممن يكافئون العداء الإسرائيلي، وبمساعدة مسلم بها من الترهيب الفكري الذي يمارسه المتطرفون الإسلاميون المتشددون، يمنع الكثيرين في العالم العربي من النظر إلى إسرائيل كشريك محتمل في التنمية الإقليمية. ويتفاقم هذا الوضع بسبب الحجة العنصرية للصهاينة بأنهم يحملون عبء الرجل الأبيض في فلسطين، حيث تقوم إسرائيل بدور "التمدين" الذي قام به الرجل الأبيض في المنطقة. ولكن مواطني العالم، الكثير من العرب والإسرائيليين، يعرفون هذا الخطاب الاستعماري المخزي والحقيقة التي ينطوي عليها. وينبغي إنشاء دولة ديمقراطية وحدوية في المنطقة العربية حيث يمكن للناس بغض النظر عن العرق والدين، العمل والعيش في وئام معا.
وعلى إسرائيل أن تقر بدورها بوصفها من أصحاب المصلحة في الاستقرار والتنمية في المنطقة من خلال الالتزام بالسلام على غرار ما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة 242 و338. وعلاوة على ذلك، يجب إشراك الأردن، إلى جانب جيرانه، في المحادثات والمفاوضات المتعلقة بالسلام في منطقتنا. وعندها فقط، يمكن أن نمضي قدما بشكل جماعي لمعالجة إمكانية تحقيق السلام الدائم والعادل الذي نسعى جميعا لتحقيقه.