يعد التقارب والوحدة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية أمر مطلوب بهدف التعريف وإعادة صياغة مفهوم إدارة المياه والأرض. إن تسخير القيم الجوهرية للإسلام يمكن أن يُلهِم رواية جديدة قادرة على تقديم نموذج جديد للتنمية المستدامة للمياه والمصادر الطبيعية. إن اوائل الحضارات "القائمة على احتكار المياه " في منطقة غرب اسيا وشمال افريقيا كانت قد حافظت على نوع من التوازن بين الإنسان والطبيعة, قبل ان يصلوا الى نقطة التحول او الانهيار بسبب نقص الفهم البيئي.
إن نظرة الإسلام العالمية تقدم أفُق تفاعلي وتكاملي للاستدامة والحضارة الإنسانية, حيث أن هدف القانون "المقاصِد" قد حدد إطار لتحليل السياسات العامة وللموازنة بين المصالح العامة والمصالح الشخصية. كما يقدم الاسلام منظور جديد لتفسير ومعالجة الأسباب الجذرية للأزمة البيئية الحالية التي تتجلى بظاهرة التغير المناخي والفقر والامن البشري. ينظر الفكر الإسلامي لتحديات القرن العشرين على أنها أزمة قِيَم,كما يدرك الحاجة الى إعادة تقييم الأُسُس التي بُنيَ عليها المجتمع بأسرِهِ. وتعتبر الأزمة في العلاقات الاقتصادية والسياسية الناتج الطبيعي للقيم والمؤسسات التي تُميز الحضارة الحديثة.
من المؤكد انه مع الفهم الدقيق للقيم الاجتماعية للإسلام, فإنه بمقدور المجتمعات القائمة على القيم ان تطور نهج إبداعي مبتكر لتحقيق الاستدامة في استخدام الوقف والحِمى وإحياء الأرض الموات والصكوك. إن رسالة الإسلام خالدة ومبادئه عالمية موجهةٌ نحو الأفكار الجوهرية ومبادئ ونهج الاستدامة والازدهار.
تعتبر المنطقة العربية رهينة للحالة المتشابكة من انعدام الأمن المائي والامن الغذائي والطاقة. لقد كان عدد سكان المنطقة العربية في عام 2010 يقدر بأكثر من 359 مليون نسمة ومن المتوقع ان يبلغ 487 مليون نسمة بحلول عام 2025, وهو الأمر الذي سيؤدي بشكل طبيعي الى زيادة الطلب على المياه وغيرها من مصادر الأرض, كما ستؤدي الهجرة السريعة باتجاه المناطق الحضرية الى إضافة عبئ مائي على كاهل مدن المنطقة, حيث يعيش اكثر من 55% من سكان المنطقة في المدن, ومن الملاحظ حدوث نزعة في التحول نحو الحياة المدنية في كل من مصر ولبنان والمغرب والجمهورية العربية السورية وتونس, ويُعزى ذلك بشكل كبير الى تدني الدخل وانخفاض فرص الحصول على العمل في القطاع الزراعي, إضافة الى تنامي نسبة عنصر الشباب من مجموع السكان.
في منطقة غرب اسيا وشمال افريقيا, يمكن ان يعتبر الفقر والغنى معاّ أسبابا أساسية لتدهور الموارد والاستغلال الجائر لها, وذلك نتيجة لأنماط الاستهلاك وأساليب المعيشة المتَّبعة. في المناطق ذات المناخ الجاف يمكن تسخير رأس المال لتطوير مصادر المياه مثل مشاريع تحليه مياه البحر في دول الخليج. لكن السؤال الرئيسي هو كيفية إعادة إحياء بعض أساليب التنمية مثل الِحمى والوقف كنماذج مبتكره للاستدامة والتنمية التي محورها الإنسان.
تقدم النظرة العالمية للإسلام منهج شمولي لإدارة المصادر الطبيعية يعمل على تحقيق نظام القيم وتطوير النماذج على الأرض, حيث أن غاية الشريعة هي تحقيق الخير للجميع لان كل مخلوق له دورٌ يؤديه ليسهم في تحقيق الهدف من خلق الكون وتصميمه بهذا الشكل ألا وهو عمارة الأرض.
المبادئ الأساسية لضمان الإدارة المستدامة للمصادر الطبيعية هي: الوحدة والوصاية والمسائلة, ينظر الإسلام جوهرياً إلى البيئة من منطلق التوازن. وهنالك ثلاثة نواحي في الحياة الإسلامية لها ارتباط وثيق بالمحافظة على التوازن البيئي هي الوعي البيئي والبساطة والتعاطف, وتعطي هذه المبادئ جوهر مفهوم الحياة الطيبة, وتقدم التصور الذي يؤسس للحياة الطيبة التي تعتبر امر ضروري لتحقيق الاستدامة.
يرتكز العمل الجماعي والاختيارات الاجتماعية للامة الوسط على عمل الخير وحسن السلوك, وعدم التسبب بالضرر والأذى لأي كائن حي او جماد. إن مبدأ "لا ضرر" يتضمن اتخاذ الاجراء اللازم ضد الانشطة التي تسبب الضرر والاذى للمجتمع والطبيعة, علاوة على ذلك فإن احترام الطبيعة والتنمية المسؤولة منصوص عليها في القوانين الاسلامية ارتباطاً بأهمية إحياء الاراضي العامة القاحلة.
" من احيا ارضاً مواتاً فهي له" حديث نبوي
تحث القوانين الإسلامية على المحافظة على المياه ومشاركتها كما تشجع الزراعة والتشجير, وبالمقابل فإنها تنهى عن إزالة الغابات. ويمكن قياس السبب من هذا المنع على قضايا أخرى تتعلق بأمن البيئات الطبيعية, ويأتي هذا في سياق الحديث عن نظام الحِمى (نوع من الأراضي المحمية), والذي ظهر كإستجابة للحاجة الى تشجيع التعايش بين الانسان والطبيعة, هذا الابتكار الاجتماعي الذي تم استلهامه وتعلمه من قبل الثقافة المحلية , وتم تطويره من خلال المنطق الإنساني والتجريب والاجتهاد. ويعتبر الحِمى مثال جيد لنموذج التنمية التي ترتكز على الانسان, حيث يُنظر للانسان على انه الوصي والشاهد المسؤول عن تحقيق مبدأ عمارة الارض.
بإختصار , فإنه من الواجب اعادة احياء بعض نماذج التنمية المتجذره في الثقافات المحلية, فمثلاً يمكن استدامة ودعم مبدأ "الحِمى" من خلال نماذج تمويل تعتمد على المجتمع مثل "الوقف" والصكوك, ومما لا مجال للشك فيه فإن الحِمى أحد اهم ممارسات المحافظة في الاسلام, ويجب اعادة احيائه من خلال الادارة المتكيفة واشكال من ادارة المصادر الطبيعية التي تعتمد على المجتمعات.
يعتبر الركود في جيل العولمة عائق أمام تطوير آلية لإصلاح النظام البيئي والمحافظة عليه. إن انعدام التعاطف مع البيئة وعدم احترامها يعد بمثابة حريق اشعله الانسان ويمكن ان يدمر ثروات نظامنا البيئي والغابات التي تعتبر مصدر دوائنا وأماكن لعبنا ومدارسنا ومصادر الهامنا, ويجب علينا ان ندرك اننا لن نتمكن من الاستثمار في كوكب ميت.
المؤلف:
الاستاذ الدكتور عودة الجيوسي, مستشار مستقل متخصص بمواضيع الاستدامة و المياه والبيئة. سبق له ان شغل منصب نائب رئيس الجمعية العلمية الملكية للعلوم والابحاث بالاردن بين عامي 2011-2013. كما شغل منصب المدير الاقليمي للاتحاد العالمي للمحافظة على البيئة – في المكتب الاقليمي لمنطقة غرب اسيا والشرف الاوسط بين عامي 2004-2011. كان عميد البحث واستاذ جامعي بتخصص الهندسة المدنية بين عامي 1994-2004. وعضو مجلس مؤسسي المجلس الاردني للابنية الخضراء, وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج البكالوريوس بتخصص ادارة مصادر المياه بين الجامعة الاردنية وجامعة كولونيا. له كتاب منشور حول الاسلام بعنوان "الاسلام والتنمية المستدامة", كان يعمل مستشار لكل من البنك الدولي والوكالة الامريكية للتنمية الدولية USAID والمؤسسة الالمانية للتعاون الدولي GIZ ووكالات الامم المتحدة. تشتمل اهتماماته البحثية على مواضيع الاستدامة والثقافة والابتكار والتقنية والتخطيط والسياسات