يبحث كيم ويلكينسون في ضرورة أن ينظر صنّاع السياسة إلى ما بعد الحرب المدنية في سوريا، والبدء بالتفكير في أعمال إعادة الإعمار ما بعد الأزمة والصلح.
أثناء زيارتي إلى مخيم الزعتري، التقيت بفتاة صغيرة سمّتها والدتها "سوريا". بدت مُشعّثة وهي تلعب مع أخوتها وأخواتها في التراب حول "كرفانتهم" في الزعتري. كان شعرها بلون الزنجبيل وعيناها واسعتان خضراوتان. تساءلت حينها ... ما المستقبل الذي ينتظر هذه الفتاة؟ كان ذلك في شهر سبتمبر 2013. بل يبدو تصور الأمر أكثر صعوبةً الآن بعد مضي سنة دون أن يطرأ أي تحسن، وما نوع الحياة التي قد تعيشها الفتاة يوماً ما.
فبعد أن تحولت الأزمة السورية إلى نزاع مدني مُضطرب، أصبح كل طرف يقترف جرائم الحرب من جانبه، واستخدام الأسد الأسلحة الكيميائية ضد شعبه، وتوحّدت الفصائل الثائرة، ثم تقاتلت. كما ارتفعت التكلفة البشرية لهذا النزاع الذي استمر ثلاث سنوات ونصف السنة إلى أرقام لم يعد العقل يُصدقها، وبلغت أعداد اللاجئين العالميين الآن ذروتها منذ الحرب العالمية الثانية. ومع إعادة تراصف الصفائح التكتونيّة للسياسة الخارجية، بدأت ترتسم صوراً مختلفة للمستقبل السياسي. حيث اكتسب نظام الأسد عند انضمام حزب الله إلى قواته بعض الدعم على الأرض. بيد أن التنبؤات الأخيرة "بانتصار" الأسد قد أصبت موضع التساؤل. يبدو، كما وصفها شيرلوك وسبينسر، أن القوى الخارجية ليست مستعدة للسماح لحلفائها بالخسارة، ولكنها لا تملك الإرادة السياسية الكافية للالتزام بتحقيق انتصارها. ومع دخول داعش (المعروفة باسم الدولة الإسلامية) إلى الساحة الآن، يظهر المستقبل أكثر ظلاماً. تعتمد الكثير من القرارات المفصلية على حلب، المَعقل الثوري المعتدل، التي أصبحت الآن عرضةً للهجوم من قوات الأسد من جانب ومن داعش من جانب آخر.
إن قصر النظر هو الوصف الذي اتسمت فيه السياسة في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (وانا). فالبعض قد يرى أن البدء بالتفكير بما سيبدو عليه إعادة الإعمار بعد الحرب المدنية في سوريا مجرد إجراء وقائي، ولكني أراه ضرورة لابد وأن يبدأ صنّاع السياسة بالتفكير بها. مع وجود الكثير من اللاعبين على الأرض، ومضي ثلاث سنوات ونصف من الاقتتال - تعرض فيها السكان للجوع الشديد والقصف بالبراميل، والنزوح الداخلي وعيش حياة اللاجئين - أصبح من الصعب حتى تصور ما معنى "الفوز" في هذه الحرب المدنية. بيد أن التفكير بمستقبل سوريا والنظر إلى ما بعد عناوين الصحف اليومية، (العناوين التي سيطر عليها مؤخراً الفظائع التي اقترفتها داعش)، قد أصبح تمريناً هاماً ينبغي على واضعي السياسة الاعتياد عليه.
يستلزم التفكير بمستقبل ما بعد الحرب في سوريا تطبيق نهج متعدد الأوجه، يتضمن التركيز على نزع السلاح وإعادة التأهيل وإعادة إعمار المؤسسات الحيوية مع التأكيد على أهمية التعاون الإقليمي.
وبصرف النظر عما ستصل إليه الحرب، يُعدّ نزع السلاح الركيزة الأساسية لإعادة الإعمار ما بعد الحرب ويمثل الضرورة الأساسية في سوريا. لقد ساهمت الأسلحة الصغيرة والخفيفة المنتشرة بأيدي المقاتلين السابقين في استمرار انعدام الأمن في ليبيا ما بعد الحرب، حتى بعد تعيين الحكومة الجديدة. يظهر بأن هناك العديد من النهج المختلفة التي يمكن تجربتها في سوريا، مثل برنامج تبادل البنادق.
كما سيكون للتوصل إلى تسوية أهميته الكبيرة، حيث لابد وأن يشارك جميع السوريين بالعملية والتمتع بالنّعم التي ستتحقق من إعادة الإعمار ما بعد النزاع. أوصى بعض المحللون بأهمية التركيز على الهوية الوطنية السورية واسعة الانتشار، بدلاً عن تلك المذهبية والأكثر تضيقاً. يبدو أن القول أسهل من الفعل في نزاع بدأ يأخذ طابعاً طائفياً بشكل متزايد. إنه لمن الأسهل التوصل إلى تسوية من خلال تحميل المسؤولية لأولئك الذين اقترفوا جرائم الحرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، وهذا يشمل النظام (على سبيل المثال، اقترافه جرائم في البياضة وبانياس والهجوم على الغوطة بالغاز)، وكذلك أفراد من المجموعات والمليشيات الثائرة وداعش. إنها من دون شك مهمة صعبةً بشكل كبير. فقد وثقت هيومن رايتس وتش مسبقاً وبزخم كبير انتهاكات حقوق الإنسان، ولكننا نحتاج إلى الإرادة السياسية، والتي غالباً ما تتوافر بصورة شحيحة، لتحميل المُسيئين المسؤولية. تعرض إحدى الأفكار، على الرغم من وجود نواقص فيها، على أن الظروف التي تحيط بالمساعدة لإعادة الإعمار من شأنها أن تشجع على متابعة متواصلة لتطبيق حقوق الإنسان.
كما أنه من الصعب جداً تصور كيف يمكن التوصل لتسوية مع وجود داعش، حيث لا تُظهر المجموعة أي اهتمام أياً كان في المشاركة بأية تسوية مع أطراف أخرى في سوريا، فرؤيتهم لتطبيق خلافة إسلامية لا تنطوي على أية مساومة. سيكون تأثير وجودهم في المنطقة طويلاً، ولهذا لابد عند تفكيرنا بمستقبل سوريا أن نُضمّن خطةً لإعادة تأهيل المقاتلين من كافة المجموعات.
سوف يكون لإعادة بناء المؤسسات والدولة أهميته الكبيرة في إعادة الإعمار ما بعد النزاع. بيد أنه من الممكن الاستفادة من بعض التجارب في العراق. وفي كتابه بعنوان "الحياة الإمبراطورية في مدينة الزمرد"، يصور راجيف تشاندراسكاران كيف أن عملية اجتثاث البعث عملت على إزالة الموظفين البعثيين المدنيين ممن يتمتعون بقيمة كبيرة، وتركت جهود بناء الدولة عرضةً للضرر بشكل خطير. في حال اشتمل مستقبل سوريا ما بعد الحرب المدنية على تداعي الحزب، ليس من الضرورة أن يتسبب بتداعي جهاز الدولة بأكمله.
لقد تدمرت البنى التحتية مثل المشافي والمدارس، في حين برز للتعليم بشكل خاص أهمية جوهرية في بناء المُدن، وهذا الجانب ذاته هو ما يحفز الجهود للإغاثة. وعلى ضوء وجود نسبة كبيرة من اللاجئين تحت سن الثامنة عشر، هناك الكثير ممن توقف عن الالتحاق بالمدرسة والدراسات الجامعية. لقد تسببت الرغبة بالتعليم وفرص العمل بدفع بعض اللاجئين السوريين للمخاطرة بأنفسهم والعودة إلى سوريا.
إن غياب الفرص التعليمية للسوريين خلال الحرب المدنية من شأنه أن يخلق ما جرى وصفه باسم "الجيل الضائع". ولمحاربة الوصول إلى مثل هذه النتيجة، وفرت مؤسسة سعيد للتنمية العديد من المنح التي أتاحت للاجئين السوريين الفرصة للالتحاق بالجامعات. بيد أنه لا يزال هناك الكثير مما يمكن القيام به بهذا الخصوص.
وأخيراً، يمكن للتعاون الإقليمي أن يمثل حجر الأساس في التنمية ما بعد النزاع، حيث يمكن لإعادة بناء سوريا أن يعمل كحافز للدول الإقليمية، المقسّمة غالباً، للاجتماع والعمل معاً. اقترح البعض إلى أن الوقت قد حان للتوصل إلى اتفاق جديد يجمع بين أصحاب القوة في منطقة وانا. كما يمكن لإعادة الإعمار بعد النزاع أن يكون الحافز لإعادة تركيز القوى في المنطقة من التنافس إلى التعاون، ومن شأنه أن يحث الدول في غرب آسيا وشمال أفريقيا إلى إيجاد نوع من تصميم معماري للأمن الإقليمي الذي يمكنه المساعدة في منع أي نزاع في المستقبل.
حتى وإن بدا مهمةً صعبة، ينبغي علينا التفكير بمستقبل سوريا. كثيراً ما تنشغل الدول بالقيام بأعمال مباشرة للسياسات الدولية، بيد أن للأفعال على المدى الطويل أهميتها أيضاً. قد تكون تكلفة عدم التخطيط للمستقبل باهظةً جداً يصعب تحملها أو تتسبب بضياع جيل كامل أو إقامة دولة فاشلة. إن تلك التدابير الوقائية والسياسة قصيرة البصر ليست كافية لفتاة تُدعى سوريا. ولهذا السبب، حتى عندما لا يبدو أن الحرب المدنية في سوريا ستصل إلى نهاية، ينبغي علينا العمل على تصور ما بعدها والتخطيط له. وعلى نحو متزامن، يجب علينا القيام بكل ما يمكن هنا والآن لضمان تحقق مستقبل لامع للسوريين: للاستثمار في تعليم اللاجئين وتقديم الدعم النفسي وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، حتى وإن بدا عديم الجدوى الآن. ينبغي تطبيق البراغماتية المجتمعة مع التخطيط للمستقبل على أنهما ركيزتين أساسيين للاستجابة الدولية والإقليمية.