تعتبر "الخلافة الاسلامية" المزعومة المعروفة بتنظيم داعش طفرة في عالم الإرهاب العالمي. وحتى بعد هزيمة التنظيم العسكرية، فإن بروز نموذج داعش والحقائق القاسية جراء ذلك على الأرض، تجعل من عودة داعش أو مجموعة شبيهة بداعش احتمالا واردا في المستقبل.
ويحافظ نموذج داعش على مكانته البارزة بين حركات الجهادية العالمية من خلال مستويات تجنيد المقاتلين الإرهابيين الأجانب التي وصلها التنظيم ولم يسبق لها مثيل، إضافةً إلى استخدامه المتطور لوسائل الإعلام وتوسيعه لدور المرأة والأطفال وحصوله على موطئ قدم في الإقليم وتوفر الموارد المالية الكبيرة لديه؛ لذلك لن تُخمِد الهزيمة العسكرية التنظيم حتى لو كانت هذه الهزيمة مقترنة بخسارة مناطق على الأرض.
ظهرت داعش لملء فراغ أمني وتصحيح مظالم متصورة ضد السنة في كل من سوريا والعراق. وبعد مرور ثلاث سنوات على إعلان ما يسمى بالخلافة الإسلامية، اتسع نطاق هذه المظالم مع شعور الأشخاص المحرومين والضعفاء بتأثيرها بشكل أكبر.
عانى المواطنون الذين يعيشون حاليا في ظل "الخلافة" من الانتقال من حياة عادية وإن كانت صعبة، إلى حياة محفوفة بإرهاب وخوف تعسفيين. فقد هؤلاء المواطنون مصادر رزقهم ومنازلهم وتخلفوا عن التعليم. وتحولت المنطقة بأكملها إلى السواد حين وصل داعش إلى شمال العراق. تضررت مئات المصانع ودمرت، وانخفض إنتاج الغذاء حيث تم طرد عدد كبير من المزارعين خارج أراضيهم الزراعية الخصبة من قبل التنظيم، ونتيجة للهجوم العسكري ضد داعش توقفت جميع الخدمات الأساسية من الكهرباء والمياه والاتصالات، وتركت المنطقة وغيرها من مناطق هذه الدول في حالة من الخراب. وعليه، فإن الظروف الدافعة والبيئات المُهيئة التي تَغذّى عليها التنظيم إبان صعوده وشكلت له شريان الدم والحياة ما زالت موجودة وحاضرة، لا بل زادت حِدة.
ينذر هذا الواقع القاسي أن التنظيم المسمى بـ"الخلافة الإسلامية" سيوظف ما أجاد توظيفه دائماً في ظل هكذا ظروف وبيئات: قدرته على إعادة تغيير جلده وإعادة إختراع نفسه وبناء استراتيجيات جديدة تمكنه من الاستفادة من الظروف المحلية والوطنية والإقليمية القائمة لخدمة مشروعه.
كان النزوح الداخلي أكثر صمتا حين كان الضرر أقل قبل نحو 3 سنوات، وبدى في ذلك الوقت أن الصراع كان قابلا للإنقاذ إلى حد ما. ومع ذلك، صدم داعش العالم في مدى السرعة والكفاءة التي بسط فيها نفوذه على مساحات واسعة من الأراضي. وتدل أصول داعش الرئيسية من الاستخدام الوفير لتكنولوجيا الاتصالات عبر الإنترنت ومصادر الدخل المتنوعة على قدرة التنظيم على الصمود ومرونته.
والواقع أن الحقائق الأكثر قسوة على الأرض اليوم توفر أرضية أكثر خصوبة لداعش منها في عام 2014، حيث أن إرث المنطقة من ضعف الحوكمة والظلم الاجتماعي إلى جانب الانقسامات الإثنية والطائفية والقبلية العميقة يبدو أكثر حضوراً وإلحاحاً اليوم من أي وقت مضى.
يشير هذا التصور إلى مسار مقلق. من المؤكد أن الهزيمة العسكرية ستقوض نفوذ داعش من خلال وقف تقدمه وسيطرته على الأراضي ومجموعات السكان المدنيين. ولكن من غير المرجح أن تخمد المجموعة أو ينطفأ تأثيرها، أو أن يمنعها ذلك من الانتشار في مناطق جديدة. ومن الممكن أيضا أن فقدان النفوذ والسيطرة على الأرض سيدفع التنظيم إلى زيادة أنشطته عبر الإنترنت (التجنيد والهجمات السيبرانية والحملات القائمة على الخوف وما إلى ذلك)، وقد يلجأ التنظيم في موازاة ذلك إلى تفعيل الخلايا النائمة داخل المنطقة وخارجها.
ببساطة، لم تتغير الظروف السياسية والاجتماعية التي دفعت بإتجاه صعود داعش، وقد أدى تطوره إلى خلق واقع سياسي واجتماعي جديد في الشرق الأوسط. هذا الواقع يتجلى في بيئة معقدة للغاية وهشة، حيث أن عوامل مثل التداعيات السياسية المتعلقة بالمسألة القومية الكردية والصراع الممتد في سوريا والطائفية الشائكة في العراق والمسألة السنية - الشيعية الأوسع في المنطقة تلعب جميعها دورا في هذا الواقع الجديد.
وفي الواقع، فإن داعش فكرة وهذه الفكرة أثبتت أنها مضادة ومقاومة للرصاص، حتى لو أخذ الرصاص شكل تحالف دولي له قدرات وموارد عسكرية لا مثيل لها. نزع سلاح القلوب وتمكين العقول هي معركة المنطقة التي لم تخضها بعد. وبالتالي فمن السذاجة توديع نموذج داعش الأول، فالظروف على الأرض تشير إلى أن نموذج داعش الثاني ليس احتمالا بعيد المنال.