في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2010، أقدم البائع التونسي محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده، جاعلاً منه الشرارة التي انطلقت وأدت إلى تغيير المشهد السياسي لمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا. تبع ذلك سلسلة من الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة العربية. وبينما واجهت كل من هذه البلدان العربية المختلفة نسختها الخاصة من ما سُمي بـ "الربيع العربي"، أصبح من الواضح أن عقدا اجتماعيا جديدا آخذا في التطور. فما الذي ينبغي أن يبدو عليه هذا العقد، وما هي الفرص التي يجب أن يوفرها لشباب المنطقة؟
شهد تطور العقد الاجتماعي في العالم العربي مراحل مختلفة. وظهرت أولى مراحله في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين عقدي الخمسينات والسبعينات. تأثرت هذه المرحلة إلى حد كبير بصعود الحركات القومية العربية والحركات الاشتراكية في مرحلة ما بعد الاستعمار. واستتبع ذلك نموذجا للرعاية الاجتماعية تكفله النظم السياسية القائمة، وتحولت بموجبه المجتمعات من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات صناعية في ظل إدارة الدولة المركزية.
وعليه، فقد تم الحفاظ على مستوى لائق من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لفترة من الزمن، ولكن لم يبذل بموازاة هذا الرفاه سوى القليل لتحقيق إصلاحات سياسية ذات مغزى تتجاوز الوعود المشرقة والشعارات الوطنية. وكان من الطبيعي والمعتاد أن يضمن أي مواطن متعلم وصاحب شهادة جامعية وظيفة في القطاع العام. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا النموذج قابلاً للاستمرارية والاستدامة، ما ترك العالم العربي مع إرث ثقيل من العجز المالي المتزايد والقطاع الحكومي المتضخم.
شهد العالم العربي تحولا من "الثورة" إلى "الثروة" منذ عقد السبعينيات وصاعدا، ما سَهَّل عملية تحرير اقتصادي جريء وبناء للمؤسسات. وبموجب هذا التحول، ارتبطت اقتصادات المنطقة بالاقتصادات النفطية والسياسة العالمية الأعرض، وتشكَّل هذا التحول داخل أطر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى حد كبير.
وبشكل متوقع، جاءت هذه العملية بتكلفة اجتماعية باهظة، إذ ساهمت بشكل مباشر في توسيع التباينات الطبقية وترسيخ أسس الدولة الريعية وشبه الريعية في العديد من الدول العربية. وصاحب هذا التحول إرتفاع ملحوظ في مستويات الفساد والمحسوبية والتي أفضت في المحصلة إلى إغراق المنطقة في أزمات مالية خطيرة. قادت هذه الأزمات صندوق النقد الدولي إلى فرض تعديلات هيكلية على الاقتصاد في عدد من البلدان العربية، ما دفعها نحو تنفيذ تدابير تقشفية تستند إلى نموذج الاقتصاد النيوليبرالي. ومرة أخرى، بدا من الواضح بأن المنطقة غير قادرة على الاستمرار وفق العقد الاجتماعي القائم.
على غرار أحداث الربيع العربي، بدأت محاولات التغير في تونس مع انتفاضة الخبز عام 1984، وأعقب ذلك عدد من الانتفاضات وأعمال الشغب التي تحركت في بلدان عربية اخرى، منها المغرب عام 1984 والجزائر عام 1986 والأردن عام 1989. ولكن على النقيض من الربيع العربي في عام 2011، كان لدى الحكومات العربية آنذاك القدرة على احتواء هذه الانتفاضات بكفاءة لأسباب عدة منها احتكارها لقنوات المعلومات والاتصالات. وعلاوة على ذلك، كانت إحدى سمات العقد الإجتماعي بأن طالب المواطنون العرب بالتغيير والإصلاح من خلال حكوماتهم والتي كانوا يرونها كجزء من الحل.
نجد مشهداً مختلفاً بالخطو سريعاً إلى عام 2011. إذ لم يكن الشباب العربي أكثر تعليما وحسب، بل كان له أيضا إمكانية أكبر للوصول إلى الإنترنت وكان أكثر ارتباطا من الأجيال السابقة. حيث شهد عدد مستخدمي الإنترنت في المنطقة، على سبيل المثال، معدل نمو بلغ 2500٪ على مدى السنوات العشر الماضية، وفقا لموقع عرب نت، وهو مرجع رائد للأعمال الرقمية في الشرق الأوسط.
يقدر تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2016 أن 60 في المئة من سكان منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا تقل أعمارهم عن 30 عاما. ومما يميز هذه الديموغرافية اليافعة هو أن ريادة الأعمال قد أصبحت موضع تقدير كبير بين أبناء هذا الجيل الصاعد من شباب المنطقة العربية. يشير المنتدى الاقتصادي العالمي موضِحاً ما سبق إلى أن المنطقة تملك رياديي الأعمال الأصغر في العالم بمتوسط عمري يبلغ 26 عاما. كما يبدو أنهم يعملون بجد أكثر مقارنةً بأقرانهم من رياديي الأعمال في العالم حيث يبلغ متوسط يوم عمل ريادي الأعمال في المنطقة 12.5 ساعة، أي أكثر بنحو 2.5 ساعة فوق المتوسط العالمي لجيل هذه الألفية. وتجد الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد إحصاءات، بل هي فرص غير مرصودة وغير مستغلة بالكامل.
من هذا المنظار، فإن ما يحدد العقد الاجتماعي المتطور في العالم العربي بعيدا عن ما سبقه من العقود يصبح واضحا. إذ لم يعد الشباب في العالم العربي يريدون مجرد "مقعدا على الطاولة" أو وظيفة في القطاع العام، بل يطالبون اليوم بفرص متساوية في الحياة. وينبغي للعقد الاجتماعي الآخذ في التطور أن يكافئ جدارتهم، وأن يوفر لهم مساحة للابتكار وريادة الأعمال، وأن يمنحهم حرية التعبير عن آرائهم بشكل بناء، وأن يزودهم بالمهارات اللازمة لتطوير قدراتهم الذاتية. باختصار، ينبغي أن يعترف العقد الاجتماعي الجديد بالشبان العرب كمواطنين، لا كرعايا.
وبذات القدر من الأهمية، فإن هذا الجيل الجديد من الشباب العربي لم يعد يسعى إلى التغيير والإصلاح من خلال الحكومات. وفي الواقع، يرى معظم الشباب اليوم أن حكوماتهم تشكل عقبة في سبيل تحقيق إمكاناتهم الكاملة. وينظر إليها باعتبارها جزءا من المشكلة، لا الحل.
وفي النهاية، تقلصت مساحة الأيديولوجيا في العالم العربي لصالح البرامج العملية والعلمية الممنهجة التي تعالج المظالم والتحديات اليومية للشباب العربي. إذ لم يعد الخطاب الدعائي الذي هيمن على المشهد في العالم العربي على مدى عقود، داعياً إلى مشاريع إصلاحية كبيرة تفسر كل شيء بطريقة إقصائية - صواب وخطأ، أبيض وأسود.. مقبولا. يرى العقد الاجتماعي الآخذ في التطور في العالم العربي اليوم الإنجاز والتقدم، سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات أو المنظمات غير الحكومية أو الأحزاب السياسية أو الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، باعتبارهما البوصلة الوحيدة للمضي قُدُماً.