لم يعد احتكار العنف في سوريا والعراق من اختصاص الدولة فقط. بل أصبح احتكار استخدام القوة المشروع واحدا من أسس الدولة الحديثة، كما يقول ماكس فيبر في كتابه المعروف، "السياسة كالمهنة". ومع ذلك، نشهد في سوريا انتشار الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تتحدى هذا المفهوم، أثناء تنافسها من أجل السيطرة على الأراضي المختلفة. وتشمل هذه الجهات الفاعلة غير الحكومية جبهة النصرة، و داعش (ويشار إليها باسم ISIS / ISIL / IS)، والجيش السوري الحر، والجبهة الإسلامية وقوات الدفاع الوطنية السورية.
ماذا تريد تلك الجماعات المتعددة؟ وماذا يعني انتشارها بالنسبة إلى مستقبل الإقليم؟ من أجل استكشاف الإجابات على تلك الأسئلة لا بد من النظر بطريقة حقيقية إلى ما يسمى بالاقتصاد السياسي. يظهر ذلك جليا في المصالح الاقتصادية لتلك الجماعات، فقد حضرت شخصيا حفل إطلاق كتاب في غاية الأهمية عن منظمة الدولة الإسلامية: وعنوانه ‘أزمة السنة و صراع الجهاد العالمي‘ (نشرته مؤسسة فريدريش إيبرت ستفتنغ) والذي طرحت فيه مراحل تطور داعش. ناقش فيه المؤلفون كيف بالإمكان فهم المنظمة من خلال النظر إلى الأيديولوجية لوحدها، فداعش منخرطة بعدد من الانشطة مثل استغلال حقول النفط وتجارة الآثار وكل ذلك يمكن النظر إليه كنوع من البراغماتية أو الدافع الاقتصادي. كيف تفسرون إذا بيع النفط الخام للنظام الأسدي ولجماعات أخرى تقتتل داعش معها أصلا ؟ لا ينكر وجود مبررات أخرى، ولكنه يؤكد على أن الآيديولوجية وحدها لا تكفي لدراسة الحالة الداعشية وأنشطتها في سوريا والعراق.
بالمناسبة، يمكن لنهج الاقتصاد السياسي ان يساعد في فهم طبيعة ‘القبضة الحديدية‘ لتلك الأقلية. وتعد عملية إعادة ترسيخ الحكم العسكري في مصر في مرحلة ما بعد الثورة مثالا على ذلك، حيث تم نقل السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية، أو السلطة الشرعية بالقانون.
نشهد أيضا تحولا مهما وذو صلة في إقليم (وانا) وهو تآكل الحدود. فداعش مصممة على رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، والكثير من الحكومات وخبراء التحليل يطالبون بعدم استخدام اسم ‘الدولة الإسلامية‘ لان المنظمة تستغل ذلك لتولي وظائف الدولة.
خذ على سبيل المثال الخدمات الصحية والبلدية المقدمة من الدولة الاسلامية مكشوفة النقاب في البلدات والقرى التي تحكمها. ففي تدمر، أصلحت داعش محطة توليد الكهرباء وافتتحت المخبز المحلي ووزعت الخبز، لكن ذلك تزامن مع سلسلة من الإعدامات، فيد تطعم ويد ترهب، مما يؤكد على أن طموحات داعش في الخلافة لا تعير أدنى اعتبار لحدود الدول الحالية. لا تقتصر الحرب الأهلية في سوريا على سوريا لوحدها إقليميا، بل سيمتد العنف إلى البلدان المجاورة، لا سيما إن بقيت تلك الجهات حاضرة على المسرح السوري. وقد نتج عن الحرب الأهلية في سوريا أعداد كبيرة جدا من اللاجئين، ففي الأردن وحدها هناك ما يقارب 600,000 لاجئ مسجل، لكن الحكومة الأردنية تقدر بأن الرقم أعلى من ذلك بكثير. يعد تدفق اللاجئين في العلاقات الدولية التقليدية تحديا للنظام الدولي، ويقودنا ذلك إلى تساؤل: ما هي الطريقة التي ننظر بها إلى السياسة الدولية؟، قد يكون من الأجدر النظر إلى الهجرة الجماعية كنتيجة لتكثيف فكر العولمة، ولكن كاستجابة أيضا لزيادة تردي الوضع الإنساني كما هو الحال في سوريا، كسمة للنظام الحالي بدلا من تحديه، فلا يجب أن تؤخذ سلامة الدول الإقليمية كأمر مسلم به في ما يقارب الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس- بيكو، التي قسمت فيها المنطقة من قبل القوى الغربية.
ماذا تعني كل التطورات للحل المحتمل لذلك الصراع الدائري الذي طال أمده في الإقليم؟ علما أن محادثات السلام السورية قد تعثرت. فقد قاطع الإتلاف السوري الوطني كمعارض رئيسي تلك المحادثات، ، وظهرت الآن تساؤلات حول ما هي اعتبارات السلام الدائم الهامة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
إن تم عقد اتفاقية سلام، فلا بد لها أن تشمل تنوع اللاعبين في الصراع السوري، وأن تعالج المصالح الاقتصادية لهؤلاء اللاعبين. ومن المهم أن نضع بعين الاعتبار أن اقتصاديات الحرب في سوريا تعمل بشكل فوري ومتزامن، فليست الجماعات المتمردة فقط والمليشيات من يعتمد عليهم. وحسبما أفاد تقرير كارنيجي الصادر في أيار، يستثمر النظام السوري في هذه الحرب أيضا. فتعطيل اقتصاد الحرب ليس بالمهمة السهلة، وهؤلاء المستفيدين من اقتصاديات الحرب يملكون المصلحة الاقتصادية في إطالة أمد الصراع، ويمكن استخدام نهج العصا والجزرة لدمجهم ودفعهم نحو ترتيب ما بعد الحرب، فجوائز لمن شارك وإقصاء لمن امتنع. بالإضافة إلى عدد من اللاعبين الإقليميين الذين تدخلوا مباشرة في الصراع السوري، فمن المرجح وجود الحاجة إلى اتفاق إقليمي لبناء سلام دائم.
تعد كل تلك الاستراتيجيات تحديا كبيرا لإنجازها، لذا يعمل معهد (وانا) جاهدا لبدء أولى الخطوات في المساهمة لبناء قاعدة معرفية إقليمية حول الصراع والانتقال في المنطقة. فنحن هنا في فريق الامن الإنساني نعمل على رسم خرائط المشهد القانوني قبل الصراع في سوريا لنعلم عن سيناريوهات العودة المحتملة. فنطور مؤشر مرونة الصراع التجريبي الذي يحدد العوامل المحددة للصراع في إقليم (وانا) بهدف المساهمة لصنع سياسية مبنية أكثر على الأدلة. ونناقش أيضا امكانية قيام المنطقة بما يسمى "بالنقلة النوعية" في طريقة تناول موضوع اللاجئين. هناك خطوات صغيرة، لكنني أعتقد أنها خطوات في الاتجاه الصحيح نحو مرونة متعززة.