في مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تم الإعلان اليوم عن مقتل زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي إبراهيم عواد البدري، المعروف بأبو بكر البغدادي، إثر غارة للقوات الخاصة الأمريكية في شمال سوريا. بذلك، يتم وضع نهاية لسلسلة من الأخبار المترددة حول مقتل البغدادي مسبقاً، ونهاية لرحلة مطاردة طويلة استمرت لعدة سنوات. وبمقتل البغدادي، تشرّع الأبواب كذلك أمام تحول في مسار التنظيمات الجهادية العنيفة، وتنظيم داعش تحديداً. ذلك أن البغدادي قد جسَّد رمزية مهمة عندما نصّب نفسه "خليفة" الدولة الإسلامية في العراق والشام إبان خطبة الموصل في تموز/يوليو 2014. فما هي المآلات المتوقعة بعد مقتل البغدادي؟
أول السيناريوهات – ولربما أهمها – هو أن يلجأ التنظيم إلى إقامة تحالفات جديدة غير متوقعة، وهذا سبر مميز لهذه الجماعة. التوقع هنا هو تحالف بارز يتمثل في زواج مصلحة بين تنظيم داعش وتنظيم القاعدة الأم. حيث إن وجود ومقتل البغدادي في منطقة تقع بالشكل الأكبر تحت نفوذ تنظيم القاعدة الأم (بلدة باريشا في ريف إدلب) يشير إلى تفاهم ما تم صياغته مؤخراً بين القاعدة الأم وتنظيم داعش – الابن المتمرد الذي خرج من رحم تنظيم القاعدة. ولا يمكن إنكار أن إعادة بناء التحالفات داخل الجماعات الجهادية الإسلامية يكاد يكون عُرفا مميزا خطّته هذه الجماعات منذ أيام "المجاهدين" العرب في أفغانستان مطلع التسعينات من القرن المنصرم. ولا شطط في تنبؤ هذا الاندماج بعد الأخذ بعين الاعتبار أن نشأة تنظيم داعش كانت منذ البدء نتاجاً لزواج غير تقليدي بين "الجهاديين الإسلاميين" وخليط من المكون البعثي للدولة والجيش والبيروقراط العراقي.
السيناريو الثاني، ولا يُقرأ بمعزل عن السيناريو الأول، هو وقوف التنظيم أمام عتبة تحولات تكتيكية وعملياتية ستفرض عليه القيام بمزيد من الهجمات على الأرض. إذ إن النتيجة الطبيعية لضرب التنظيم على هذا المستوى هو ردة الفعل العنيفة، وتفيد كل التجارب السابقة والمماثلة بأن تضييق الخناق على قادة هذه الجماعات سيولد ردة فعل شرسة تسعى لإثبات الوجود والبقاء. بيد أن ما يبقى على قيد الجدل هنا هو مدى نجاعة استراتيجية "قطع رأس الأفعى" بغية القضاء على التنظيم. التقدير الأكثر حكمة يشير إلى أن التنظيم سيترنح بالفعل كنتيجة مباشرة لهذه الاستراتيجية، لكن قطع الرأس لن يؤدي بالمحصلة إلى انهيار التنظيم. فالبغدادي، وإن حمل رمزية معنوية مهمة كخليفة أول لهذا التنظيم، إلا أنه يبقى أحد رموز التنظيم وأحد منظريه، وليس الأوحد. الأهم، فقد كان واضحاً، منذ الأشهر الأخيرة من العام 2017، أن التنظيم بدأ يعاني بالفعل من الانحسار والتراجع وعدم القدرة على التمدد والصمود، خصوصاً في المشهدين السوري والعراقي. بالتالي، فإن استحقاق معالجة ضعف البناء العملياتي وإعادة إنتاج الذات قد بدأ داخل التنظيم قبل مقتل البغدادي، ومن المؤكد أن يغذي مقتله هذا العملية ويسرع من وتيرتها.
السيناريو الثالث هو المضي بالأعمال كما المعتاد. فالتنظيم استطاع أن ينتج فروعاً تعمل بشكل مستقل ولامركزي عن التنظيم الأصل. وقد رمى تبني هذا النهج إلى التحضير للحظة مشابهة للحظة اليوم. لذلك، فإن القوة الحقيقة للتنظيم اليوم تكمن في فروعه وأذرعه الموالية، والمنتشرة في مناطق مختلفة تمتد من دول شرق آسيا وشمال القوقاز إلى وسط أفريقيا والشرق الأوسط، بدءًا من جمهورية الكونغو الديمقراطية وجماعة بوكو حرام شمال نيجيريا، مروراً بعناصره في حركة الشباب في الصومال وأنصار السنة في موزمبيق. مجتمعة، تشكّل هذه الأذرع الرافعة الحقيقية للتنظيم من حيث القوة والرجال وآليات التجنيد والتدريب والقدرة على التأثير على الأرض، وبالتالي يُستبعَد أن تتأثر ويتأثر عملها بشكل مفصلي بعد مقتل البغدادي. فالخسارة معنوية أكثر من كونها خسارة زخم حقيقي على الأرض. بل في الحقيقة، لا يستبعد قيام هذه الأذرع والفروع باستثمار مقتل البغدادي لغايات التجنيد، وتأثيرها على شكل التنظيم القادم، لا سيما في اختيار قيادته التالية.
لا شك بأن التنظيم سيقف الآن أمام استحقاق ترتيب بيته الداخلي وأوراقه. وسيكون على رأس قائمة هذا الترتيب هو اختيار خليفة البغدادي. القراءة الأولى تفيد بأن عبد الله قرداش، الذي فوّضه البغدادي مؤخراً وأناط به مسؤوليات وصلاحيات واسعة هو المرشح الأبرز لخلافة البغدادي. وقد ذكر المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أن قرداش، من مواليد تلعفر غرب الموصل، كان يتولى منصب وزير "التفخيخ والانتحاريين" داخل التنظيم، ويرد بأنه من أشرس وأقسى قادة تنظيم داعش. وبالرغم مما توحي به خطوة تفويض البغدادي لقرداش كمباركة ضمنية لأن يتولى زمام الأمور من بعد البغدادي، إلّا أن المعركة على الخلافة تحمل تعقيدات مركبة لها أن تتسبب في صدع البيت الداخلي للتنظيم. فقادة التنظيم في خورسان أو القادة التابعين لجماعة بوكو حرام مرشحين بارزين للمنصب، ولديهم من الخبرة ما يؤهلهم للتنافس على قيادة التنظيم. لذلك، فإن مستقبل التنظيم وشكله القادم سيعتمد بشكل كبير على ما ستفضي له هذه المداولات حول خليفة البغدادي، والذي تبنى نهجاً هيمن عليه خطاب القوة الصلبة والعنف البربري.
أما بالنسبة لتوقيت العملية والإعلان المرتقب عنها، فمن الضرورة بمكان أن يُقرأ على ضوء الانسحاب الأمريكي التدريجي من مواقع شمال شرقي سوريا والتحرك التركي الموازي ضد القوات الكردية المسلحة. فمن المحتمل الآن أن تتبدد بعض الانتقادات التي وجهت للرئيس ترامب على ضوء قراره في الانسحاب وذلك بعد أن قدَّم انتصارا معنويا ورمزياً بمقتله للبغدادي على غرار عملية مشابهة لمقتل أسامة بن لادن، قادتها أيضا القوات الخاصة الأمريكية آنذاك. ولا يُغفل عن التوقيت حقيقة أنّها سنة انتخابات مهمة في الولايات المتحدة، في مرحلة تحتاج بها الإدارة الأمريكية الحالية مكاسب سريعة تعزز بها من رصيدها المستنزف في الداخل الأمريكي.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن نموذج تنظيم داعش سيبقى قائماً ولن يتأذى التنظيم كثيراً بمقتل البغدادي. ذلك أنه من غير الحكمة أن يُختزل نجاح الحرب العالمية على الإرهاب في شق القوة العسكرية وتفوقها العملياتي فحسب؛ بل يجب أن يتسع لما هو أشمل من ذلك نحو تفكيك الأيديولوجيا الثنائية السامة التي اقتات عليها التنظيم ومعالجة المظالم السياقية التي غذت صعوده، وصعود تنظيمات مشابهة، في الدرجة الأولى. عكس ذلك، ستبقى احتمالية صعود نسخة أخرى من التنظيم، تُستنسخ بها دروس وتجارب من التنظيم الحالي، احتمالية قائمة بنسبة مرتفعة.