ألقى تأسيس داعش لخلافته الإسلامية المزعومة في عام ٢٠١٤ بظلال قاتمة على نسيج حركة الإرهاب العالمي. وبينما ركز العالم أنظاره على ظاهرة تجنيد المقاتلين الإرهابيين الأجانب (FTFs) ودور الرجال والنساء وبراعة استخدام داعش لوسائل الإعلام، فقد تجاهل إلى حدٍ كبير بُعداً مضافاً لهذا التأثير: ظاهرة التفويض الجماهيري للإرهاب.
كمصطلح، يشير التفويض الجماهيري إلى الاستعانة بالإنترنت من أجل توكيل أعمال إلى الجمهور، كما صاغه جيف هاو (Jeff Howe) لأول مرة في مدونته 2006. ويحدث التفويض الجماهيري عندما يتم توزيع العمل الذي يقوم به عادة أعضاء المنظمة - أو المجموعة المتطرفة العنيفة في هذه الحالة - على الجمهور الأوسع عبر دعوة مفتوحة للانخراط والعمل.
يُميّز التفويض الجماهيري عن غيره من الممارسات المشابهة المألوفة عنصران: الأول استهدافه جمهوراً واسعاً وغير محدد، والثاني أنَّ عمله يصبح أسهل بوجود شبكة كبيرة من الساعين المحتملين إلى الوظائف، وهم في هذه الحالة الأتباع المتشبعون بالأيديولوجيا. وعليه، فإن الأعداد الكبيرة من هجمات الذئاب المنفردة والوفيات المرافقة لها تدعم حقيقة وجود العنصر السابق، بينما توفر المظالم غير المعالجة للملايين من الأفراد حول العالم إمدادات غير محدودة لتحقيق العنصر اللاحق.
يمكن التقاط الطريقة التي اعتمد عليها داعش لتحقيق تفويضه الجماهيري للإرهاب عبر تفكيك مقاربته الإعلامية. أولاً: كانت الفئة التي عكف التنظيم على استهدافها وبث دعوات العمل المفتوحة لها بشكل متكرر فئة عامةً وليست محددة. إذ خاطب المهانين والمهملين والمضطهدين والمهمشين والمظلومين على حدٍ سواء، ودعاهم إلى الانضمام لما رَوَّج له كـ"قضية عادلة". بعبارة أخرى، لم يستهدف فقط أولئك الأكثر ضعفاً وهشاشة بسبب وضعهم المادي والاقتصادي فحسب، بل تعداهم ليخاطب كذلك الذين يفتقرون إلى المعنى واليقين.
ثانياً: وظَّف داعش العديد من التقنيات الحديثة والمتطورة في إنتاجه الإعلامي للوصول إلى "مفوَّضين" محتملين في جميع أنحاء العالم. استعرض فيلم وثائقي من إنتاج قناة العربية هذه الاستراتيجية الإعلامية الخاصة بتنظيم داعش، إذ تمت الإشارة تحديداً إلى استخدام التنظيم لتقنيات ثلاثية الأبعاد في إنتاج الفيديو، ونشره الأناشيد الإسلامية بأكثر من 15 لغة (بما في ذلك لغة الإشارة)، إضافةً إلى قيامه بضخ ملايين الدولارات لتمويل شبكات البث والإذاعة الضخمة التابعة له.
أخيراً: تشير المقاربة الإعلامية للتنظيم أن دعواته لم تكن محصورة بأولئك الذين يستطيعون السفر فعلياً إلى مناطق الخلافة والعيش ضمن حدودها المادية، بل في الواقع كانت دعوات عمل لأي شخص قادر - أينما كان - على إلحاق الضرر وممارسة الإرهاب بالنيابة عن داعش.
يسلط أحد الكتب الإلكترونية التفاعلية للتنظيم الضوء على هذا البعد. إذ يقوم الكتاب بتأطير الخطوات العملية لصنع القنابل باستخدام الكيمياء الأساسية مخاطباً على وجه الخصوص كل مؤمن مسلم، ويقدم تعليمات إلى الذئب المنفرد خطوةً بخطوة حول كيفية إلحاق أكبر قدر من العنف والضرر العشوائيين. تم توزيع الكتاب باللغة العربية باستخدام تطبيق Telegram، مع إصدار مماثل تم نشره باللغة التركية. لذلك، سمح تفويض داعش الجماهيري للإرهاب بالوصول إلى مستوى من التطور لم يسبق له مثيل مع أي منظمة متطرفة وعنيفة سابقاً، ومكنّه من الانتشار بشكل فاق جميع المنظمات الإرهابية المماثلة.
يطرح التفويض الجماهيري للإرهاب عدداً من التحديات الجديدة. حيث لم يعد من الممكن محاربته في الفضاء المادي والجغرافي الذي ينشط فيه الإرهابيون، ولكن يجب أن يشمل القتال أيضاً ساحات معارك أخرى تشمل السرديات والأفكار والمظالم غير المعالجة والنظرة الكلية للعالم علاوةً على التفاعلات الافتراضية.
في هذا السياق، ثبت أن هذا التفاعل القائم على الإنترنت بشكل كبير قد ازداد صعوبة في تتبعه ومواجهته حيث إنه يغذي الإرهاب المحلي مباشرةً، بما في ذلك إرهاب الأفراد الذين لم يعملوا مباشرة مع منظمات متطرفة وعنيفة. العديد من الأمثلة من سان برناردينو إلى بوسطن ووست منستر ومونتريال وتونس تسلط الضوء على الطبيعة الخطِرة للتفويض الجماهيري للإرهاب. فهو ليس فقط ممارسة لحظية ذات كفاءة وفاعلية، بل إنه يعتمد على المعرفة والخبرة المتراكمة، كما أنه مرن بما يكفي ليتناسب والسياقات والفاعلين المحددين.
لذلك، يستوجب اليوم تطوير تقنيات متقدمة ونشرها لاستهداف المحتوى الإرهابي، مع مراعاة الأبعاد المتعلقة بالخصوصية والتي ترتبط عادةً بمراقبة الإنترنت. كما يمثل بناء القدرات اللازمة لتحليل البيانات الضخمة تحدياً إضافياً للجهود التقليدية لإنفاذ القانون والجهود الاستخباراتية.
بالإضافة إلى ذلك، يزيد التفويض الجماهيري للإرهاب من تعقيد مهمة تصنيف وتحليل الإرهابيين. إذ يمكن أن يستجيب أي فرد لدعوات داعش المفتوحة، دون الحاجة إلى مطابقة هذا الفرد لتصنيفٍ معين. ويوضح هذا التيار تزايد عدد هجمات الذئاب المنفردة التي نُفّذَت في أنحاء أوروبا وخارجها. حيث تفيد تقارير من قاعدة البيانات الأمريكية لإرهاب الذئب المنفرد أن العقد الثاني من الألفية الثانية قد شهد بالفعل العديد من هجمات الذئاب والوفيات بمستويات تجاوزت كل العقود السابقة.
النسبة إلى عالم النفس الشهير آري كروغلانسكي، فإن التفسير واضح: على الرغم من اختلاف الدوافع والعوامل السياقية وراء الهجمات، فإن ما يجمع بين هؤلاء الجناة الأفراد هو حاجتهم إلى الانغلاق المعرفي. إنهم يبحثون عن اليقين والإجابات الواضحة في عالم يزداد فوضى، وقد سهّل التفويض الجماهيري للإرهاب وصول داعش إلى أي شخص يحقق هذا المعيار.
أخيراً، تظل المناقشة غير مكتملة دون ربطها بالأمن الرقمي. يجب على الجهات المعنية ذات الصلة استكشاف طرق جديدة ومبتكرة لفك تشابك هذه الشبكة المعقدة من التهديدات، والتي تواجه لغاية اللحظة قصور وقلة في البحث. ولرسم صورة أكثر دقة للتفويض الجماهيري للإرهاب، يجب أن ينظر هذا الاستكشاف في الروابط بين المسائل القانونية والقدرات المؤسسية والأدوات الفنية المتاحة لصانعي السياسات لمجابهة هذا التهديد الناشئ.
إن ترك هذا الثغرة مفتوحة يضع الجهود المبذولة ضد التطرف العنيف والإرهاب على المحك، حيث تؤكد التجربة الأخيرة مع داعش أن نظرتها السامة وثنائية الحد نحو العالم - بمجرد إطلاقها في الفضاء الافتراضي اللامتناهي - لا يمكن محوها بسهولة.