بدأت المظاهرات العربية من 2010-2011، بحيث أطلق عليها اسم الربيع العربي قبل نضوجها ، إلا أنها أيقظت العنف والصراع في أعقابها. فتواجه كل من اليمن وليبيا وسوريا الصراع العنيف الذي طال أمده، والجهات الفاعلة غير الحكومية الخطيرة مثل تنظيم القاعدة وداعش أو ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية، التي إزدهرت في خضم الفوضى.
ومن أكثر الدول سلاسة في التحولات هما مصر وتونس. فتواصل تونس خطواتها بحذر اتجاه تفعيل الديمقراطية، في حين تبدو مصر الآن وكأنها تتحرك بعيدا عن الإصلاح الديمقراطي.
يمكن أن يساعد فهم الظروف التي شكلت هذه الثورات في تفسير سبب الأمل لديهم وكيف انحرف هذا التقدم في مصر عن مساره.
تعد تونس، وهي مهد الربيع العربي، الأمة العربية الأقرب الآن إلى تحقيق ديمقراطية فاعلة ومجتمع مدني نابض بالحياة. بدأت "ثورة الياسمين" في تونس في كانون أول 2010 عندما أشعل بائع الخضار محمد البوعزيزي نفسه في شوارع سيدي بوزيد. كانت حالة الإحباط والإذلال –وهي أسباب انتحاره المثير- قد اشعلت النيران بين الشعب التونسي. وإمتدت الاحتجاجات الشعبية الضخمة إلى الخارج من سيدي بوزيد، حيث احتج الشعب التونسي على الفساد والقمع السياسي والظروف المعيشية السيئة. في 14 كانون الثاني 2011، تنازل الرئيس زين العابدين بن علي عن حكمه المستمر منذ 23 عاما وهرب إلى المملكة العربية السعودية.
فاجأت ثورة الياسمين المحللين بأنه، بالنسبة لكثير من بلدان العالم العربي، كان التونسيين يتمتعون برغد العيش. فقد كان لديهم مؤسسات فاعلة ومجتمع مدني نشط، وشريحة كبيرة متعلمة من الطبقة الوسطى. ولكن نفس الظروف التي صنعت الثورة التونسية باتت لا تنفع السكان بعد رحيل بن علي: فقد أثبتت الحكومة والمجتمع بأنهما أساسا قويا للخطوات المقبلة. وعلاوة على ذلك، بدلا من التسرع وعمل تعديلات دستورية على عجل قبل الانتخابات البرلمانية، كما فعلت دول عربية أخرى، شكلت تونس حكومة بديلة بحذر, وعقدوا أول انتخابات لاختيار 217 عضوا مؤقتا في الجمعية الوطنية التأسيسية (NCA) في تشرين الأول 2011 كان من شأنها وضع وصياغة دستورا جديدا.
مكن التجسد السياسي التونسي لجماعة الإخوان المسلمين، أو ما يسمى بحزب النهضة، من الفوز بعدد وافر من المقاعد في انتخابات الجمعية الوطنية التأسيسية NCA. ثم أدى نجاحهم الى زيادة التوتر بين العناصر العلمانية، وهدد التوتر التقدم الضعيف في تونس وبعد الاغتيالات السياسية لقادة أبرز عناصر المعارضة العلمانية في عام 2013. وتغلبت الحكومة على عدم الاستقرار الداخلي الذي يرجع إلى حد كبير إلى براغماتية حزب النهضة. ودفعت هذه الإحتجاجات الواسعة إلى استقالة رئيس الوزراء التابع لحزب النهضة وفي وقت حق، استقال الحزب ككل من الحكومة1. في حين كلفت هذه الخطوة حزب النهضة قوته المؤقتة، ثم أظهر الحزب الإسلامي التزامه اتجاه نجاح تونس على المدى الطويل والمثل الديمقراطية.
دخل الدستور التونسي رسميا حيز النفاذ في 10 شباط 2014، و أشيد به دوليا باعتباره الأكثر حداثة في العالم العربي. هو نتاج تنازلات بين الإسلاميين والليبراليين، مما أدى إلى تصنيف مبهم إلى حد ما لتونس كدولة مسلمة لكنها مدنية. وينص على أهمية المساواة بين الجنسين، والبيئة النظيفة، والتنمية المستدامة في القانون. يتألف النظام شبه الرئاسي من برلمان قوي ورئيس وزراء لموازنة السلطة الرئاسية. وأن حد النسبة الوطنية لهم 0% يعني أنه حتى أصغر الأحزاب يمكنها الحصول على تمثيل في البرلمان2. أدت هذه المعايير الى التعددية السياسية وعمل توازن وسيطرة على من هم في السلطة.
لم يتكرر نجاح حزب النهضة الإنتخابي، وحاز حزب النداء العلماني التونسي على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات تشرين الثاني 2014،و فاز مرشح حزب النداء التونسي، الباجي القائد السبسي، في الإنتخابات الرئاسية 2014. و في خضم إجراء دورة انتخابية سلمية ثانية، وجدت تونس معلما رئيسيا في التطور الديمقراطي، ولكن لسوء الحظ، أعاق الإرهاب تقدم الأمة المتوسطية. أسابيع قليلة فقط فصلت مجزرة في المتحف الوطني بباردو عن اطلاق النار الدموي الثاني في منتجع الشاطئ في سوسة. ومنذ الهجوم، فرض السبسي قانون الطوارئ ومدده في وقت لاحق، جنبا إلى جنب مع فرض قيود على الحقوق الأساسية3.
انتقل الربيع العربي من تونس، في شمال افريقيا الى مصر، حيث بدأت المظاهرات الثورية في ميدان التحرير يوم 25 كانون الثاني 2011. وبعد بضعة أسابيع فقط، استقال الرئيس حسني مبارك، الذي حكم مصر منذ عام 1981 من منصبه، منهيا أكثر من 50 عاما من الحكم العسكري. بحلول آذار 2011 تم دفع إستفتاء لعمل تعديلات دستورية على عجل من شأنها أن تسمح لإجراء إنتخابات بسرعة. وهرعت المنظمات الدينية الراسخة مثل الإخوان المسلمين الى الإستفادة من الإنتقال السريع، وانتخب زعيم جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، رئيسا في حزيران عام 2012.
وقد تميزت فترة رئاسة مرسي القصيرة بإصلاحات إسلامية، وتوطيد السلطة، واستجابة غير كافية لمطالب الشعب الاقتصادية. وعندما أعرب المتظاهرون عن استياء واسع النطاق، تدخل الجيش المصري القوي وذو الشعبية لتعليق رئاسة مرسي والدستور الذي يدعمه الاسلاميون في يوم 3 حزيران 2013.
صوابا كان أم خطأ، فقد سمحت 50 عاما من التراث المصري للقوة العسكرية، بالكاد لمرسي بإنهاء سنة واحدة كرئيس لمصر, وبدون هذا التاريخ من المشاركة السياسية العسكرية، لربما كان مرسي قد انتهى فترة ولايته.
في عام 2014، فاز اللواء المصري السيسي بالإنتخابات الرئاسية فوزا ساحقا4.ثم تم تمرير قانون الإصلاح البرلماني في مصر بهدوء في فورة إنتخابات السيسي، مما أنشأ نظام برلماني من المرجح أنه لصالح مؤسسة فردية / المرشحين الموالين للنظام العسكري وتثبيط تشكيل الأحزاب السياسية5, ولم يتم بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، وبالتالي، كان السيسي قادرا على التصرف من جانب واحد نسبيا. ومع ذلك فقد تجنب توطيد السلطة الرئاسة، بدلا من ذلك ركز على تعزيز سلطة الدولة على نطاق أوسع من خلال توفير المحاكم، وخدمات الأمن وقام النائب العام بالتصرف اعتمادا على سلطته التقديرية الواسعة لتفسير القانون6.
وقد تمحورت تصرفات الدولة منذ الإطاحة بمرسيبما يلي: حظر الأحزاب الدينية السياسية، توقيفات جماعية وصدور أحكام بالإعدام على مئات من الشخصيات المعارضة، واضطهاد الصحفيين. يشير ذلك إلى الإرتداد نحو الحكم الإستبدادي وإسقاط التهم ضد الرئيس السابق مبارك، بينما تم تأييد حكم الإعدام الصادر بحق بديله من الإخوان في حزيران، ليعطي مزيدا من التوضيح لهذا التحول.
أخذ العنف الإرهابي في هذه الأثناء بالإزدياد في سيناء، لواحدة من أبرز الجماعات في المنطقة، ألا وهي جماعة أنصار بيت المقدس التي بايعت داعش وعرفت أيضا باسم ISIS7.
اثنين من الفروق خطيرة في اختلاف النتائج بين تونس ومصر. أولا، على الرغم من أن حزب النهضة التونسي كان على غرار جماعة الإخوان المسلمين، ونجح أيضا في إنتخابات مبكرة، إلا أن الحزب أبدى استعدادا لتقديم تنازلات، واحترام التعددية السياسية، وتقاسم السلطة.
أما خلال فترة مرسي القصيرة في السلطة، فقد احتكرت جماعة الإخوان المسلمين السلطة.
ثانيا، في حين أن الحركات الاحتجاجية اتسمت بالعفوية، وغياب القيادة والعلمانية ونبذ العنف، إلا أن دور الجيش في أعقاب الانتفاضات اختلف بشكل جذري. الجيش التونسي صغير ولديه تاريخ من التهميش لمنع الانقلابات، أماالجيش المصري الهائل، اعتاد على النفوذ السياسي والاقتصادي واسع النطاق والحكم من خلال قانون الطوارئ8. لم تضمن الخلافات نجاح تونس، ولا يعني ذلك بالضرورة قيادة مصر إلى الإنحدار، ولكن فهم سياقاتها الفريدة يساعد على تفسير الأحداث منذ تضحية البوعزيزي.