هم لدي في الأردن، ولكن عندما رأيت اخوتي؟ أدركت كم كنت بعيدا عن تحمل المسؤولية". بدأت رحلة سومر بإعادة بناء الصلة ما بينه وبين شقيقاته. "أختي الصغيرة بالكاد تتذكرني، تقول لي أنها تتذكرني من خلال الصور فقط،" قالها سومر مستنكرا وقد عقد العزم على تغيير هذا الواقع.
وقد كان التغير الثاني الذي صادف سومر في بداية رحلته هو التعايش مع اتساع مساحة مدينة اسطنبول، وخاصة كونه ابن قرية معتاد على معرفة جميع العائلات فيها، حتى أنه قال بأنه يحن إلى عمان وبساطة مقاهيها الصغيرة المريحة. وبينما كان يستطلع خطوط "المترو" في المدينة المليئة بالمآذن، مقرا بأنه واحد من الملايين الذين يستخدمون وسائل النقل العام يوميا، وطأت قدما سومر خط البداية لرحلة أدرك الآن أنها ستكون طويلة جدا.
وصادف يوم وصول سومر إلى تركيا كونه اليوم الذي تلى نشر الصورة التاريخية التي اقتحمت البيوت وأوجعت القلوب حول العالم. فصورة أيلان كردي الذي حمله الموج وألقى بجثته المتيبسة على رمل شاطئ بودروم قد أحبطت الإنسانية في كل منّا. بل حطت من عزيمة الذين كانوا يخططون للذهاب في الرحلة ذاتها برفقة عائلاتهم عبر المتوسط.
ودفع الخوف والغضب 3000 سوري تقريبا إلى الشارع العام في البلدة التركية أدرنة التي تقع على حدود اليونان، متظاهرين رافعين شعار "عابرون، لا غير". انضم سومر وأخوته للمتظاهرين.
في تلك الفترة كانت تركيا تلاحق الصحافيين بتهمة "مساعدة وتحريض اللاجئين" وكانت تحكم سيطرتها على طرق أدرنة وذلك لعرقلة وصول السوريين إلى المدينة الحدودية. كان لهذه المظاهرات قيمة سياسية كبيرة لتركيا إذ كانت خير دفاع ضد اتهامات أوروبا بأن تركيا تسهل مرور اللاجئين إلى أوروبا.
ناشد المتظاهرون تركيا واليونان والمجتمع الدولي بأسره لفتح ممر إنساني إلى اليونان، وهو حل نادت به منظمات من ضمنها أطباء بلا حدود لتجنّب زيادة ضحايا المتوسط. ووفقا لمنظمة الهجرة الدولية فقد ازداد عدد الوفيات أكثر من 300 بالمئة بين 2014 و2015 إذ وصل عدد الوفيات إلى 279 .
ولكن بالطريقة ذاتها التي تم تجاهُل حملة "مرور آمن" أو #Safepassage، لم تلق أصوات المتظاهرين آذانا صاغية. وقد تحملت تركيا الاحتجاجات لمدة أسبوعا فقط ومن ثم نقلت المحتجين إلى استاد عام تحت أعين المئات من قوات الجندرمة [قوات الدرك التركية]. ولكن مع اقتراب نهاية الأسبوع، اصطفت حافلات على مدخل الاستاد وكل منها تحمل على الزجاج الأمامي وجهتها: اسطنبول إزمير أو بودروم – المدينتان الأخيرتان معروفتان بكونهما مدنا ساحلية قد أصبحت موانئ للتهريب إلى الجزر اليونانية.
وأجرت إذاعة BBC تحقيقا صحفيا حول اعتقال بعض المتظاهرين الذين اعتبرتهم السلطات "مثيري للمشاكل" وقد كشف التحقيق عن حالات تعذيب وحتى الترحيل القسري إلى سوريا مما يعتبر خرقاً فاضحاً للقانون الإنساني الدولي.
في ذلك الوقت كانت الطريق الوحيدة التي أمام سومر هي عبر اليونان إذ كانت سمعة بلغاريا سيئة بما يتعلق بمعاملتهم للاجئين والتي اشتملت على استخدام الشرطة للقوة المفرطة والموقف المعادي للاجئين من قبل الشعب.
في ظل كل هذه التطورات قرر سومر وشقيقتاه خوض الرحلة المشؤومة عبر المتوسط. حزمنا امتعتنا وارتحلنا إلى مدينة أنطاليا التركية. وخلال الحديث مع شبان سوريين التقيناهم في الطريق، سمع سومر عن طريق غير معروف كثيرا من بلدة سياحية صغيرة على الشاطئ تدعى "كاش" والعبور إلى جزيرة كاستيلوريزو اليونانية.
خمسة كيلومترات من المياه فقط تفصل كاش عن كاستيلوريزو اليونانية. أمضى سومر وأصدقاؤه حوالي ساعة حتى عثروا على وسيط: مهرب سوري في أوائل الثلاثينيات من العمر والذي يدعو نفسه "الحاج" ويصر على أن يحفظ رقمه في الهواتف بهذا الاسم لكي يحمي نفسه من تتبع السلطات. دعانا الحاج إلى منزله المتواضع لتناول العشاء وهو طبق المقلوبة، حيث أخبرنا قصصا عن ابنته الصغرى التي تحب إطعام البط، ومن الواضح أنه كان يريد كسب ثقتنا كما كنّا نحن نهيئ أنفسنا للثقة به.
يعيش الحاج في كاش منذ ما يزيد عن العام قليلا ويصف ما يقوم به هوبـ"الواجب الإنساني" بمساعدة اللاجئين السوريين على الوصول إلى أوروبا. أخبرني الحاج "أنا سوري وأعرف تماما ما يعنيه أن تهرب من الحرب". ولكنني لم أثق بالحاج. في نظري لا يمكن لمن يقوم بعمل إنساني أن يقبل التربح منه وتحويله إلى عمل تجاري ولكن سومر وثق به؛ لقد دارت نقاشات بين الاثنين حول مستقبل سوريا لساعات طويلة. والأهم من ذلك أن سومر وثق بهذا الرجل بحياة شقيقتيه وبما أنه يتعلم أن يتحمل المسؤولية فقد أصبح ينظر إلى علاقته بهذا الرجل كاستثمار. على النقيض كان لدي شعور بأن الحاج قد أتى إلى تركيا ليحاول اللجوء بدوره ولكنه استغل الفرصة ليجمع أكبر قدر من المال قبل أن يبحر مع عائلته. لقد سمعت منذ ذلك الحين أنه في ألمانيا يطلب اللجوء. أتسائل كم سوريا قد وقع في شرك المهربين بذات الطريقة.
في هذا الوقت كان من المفترض أن أكون في طريق عودتي إلى بلدي وبيتي. فقد كان المخطط أن أساعد سومر وشقيقتيه في التخطيط للرحلة ومن ثم أودعهم وأعود. ولكني أنا أيضاً، كنت قد تجاوزت نقطة اللا عودة. وهكذا وفي ظل مخاوف والديّ وضعت خطة توازن بين السلامة والفضول؛ قررت عدم العودة إلى بلدي ولكن في الوقت ذاته لن أسمح بأن يتم تهريبي أيضاً. وبدلا من ذلك سأستخدم جواز سفري الأمريكي واشتري تذكرة للسفر في المركب إلى الجزيرة اليونانية والتي يبلغ ثمنها 25 يورو وأنتظر وصول سومر وشقيقتيه هناك. وهكذا وجدت وسيلة لأتابع الرحلة الصعبة مع عائلة كريكر هروبا من المنطقة.
دينا بسلان باحثة أردنية وعاملة إغاثة سابقة. في أيلول 2015 قامت بمرافقة صديقها السوري سومر كريكر إلى أوروبا مختبأة بين اللاجئين للتمكن من فهم ظاهرة الهجرة. وهذه المقالة هي الأولى في سلسلة مقالات توثق لرحلتها.