تاريخياً، مرّ الكفاح الدّولي ضد التطرف العنيف بدورةٍ من تشكل الفقاعات ثم فقئها: حيث يتغاضى صانعو السياسة عن القضايا الهيكلية التي تُغذّي الجماعات المتطرفة إلى أن تظهر جماعة متطرفة عنيفة أخرى وتُفجّر فقاعة الأمان. عندئذ فقط، تُسارع الحكومات لإدارة الأزمة وتطويقها. وعلى الرغم من هذه الجهود، إلا أن العالم يشهد بشكل منتظمٍ ارتفاعاً في عدد المنتسبين الجدد لهذه الجماعات، بما فيهم أولئك الذين يصعدون من تحت الأنقاض لإنشاء قواعد أقوى وأكثر قدرة بعد فرضية تدميرهم عسكرياً. وفي المحصلة، يبدو أن فقء فقاعة التطرف العنيف لا يُساوي بالضرورة منع تشكلها مرة أخرى. وعليه، فإن الحاجة اليوم ملحةٌ أكثر من أي وقتٍ مضى لإعادة تفكيك الاستجابات التقليدية القائمة على ردة الفعل وإفساح المجال لاتخاذ تدابيرَ استباقيّةٍ تعالج ملف التطرف العنيف وتمنع نشؤه.
تشكل المعركة العالمية الأخيرة ضد داعش مثالاً واضحاً للاستجابات القائمة على ردة الفعل. فعندما أعلن التنظيم ما يُسمى بـ "الخلافة الإسلامية" في المنطقة الواقعة بين العراق وسوريا في عام 2014م، اتخذت مختلف الحكومات إجراءاتها للتعامل مع التهديد الجديد. وبوشر بتشكيل تحالف دولي ضد داعش – يضم اليوم 79 عضواً- في سبتمبر/أيلول 2014، والذي اتخذ من تحطيم داعش حتى إلحاق الهزيمة به هدفاً رئيساً له عن طريق الحملات العسكرية المكثفة. بالإضافة إلى ذلك، فقد سعت العديد من الحكومات في المنطقة مثل مصر، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية إلى توسيع تشريعات مكافحة الإرهاب، وإنشاء محاكم جنائية متخصّصة، وسن قوانين لمكافحة جرائم الإنترنت، وإلحاق عقوباتٍ ذات فتراتٍ أطول.
بيد أنه من الواضح الآن أن مثل ردود الأفعال السابقة قد أسفرت عن نتائج مختلطة في أفضل الحالات. حيث تُشير تقديرات حديثة لوزارة الدفاع الأمريكية إلى أن ما بين 28٫000 و31٫000 من مقاتلي داعش ما زالوا في العراق وسوريا، على الرغم من إنفاق 14.3 مليار دولار على أكثر من 24٫000 غارة جوية. وفي تقرير حديث، أوردت المديرية التنفيذية لمكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة تأكيداً على هذه النقطة: فمن بين 14٫900 من المقاتلين الذين غادروا مناطق النزاع في عام 2017، 36٪ منهم فقط مسجونون حاليّاً، في حين عاد 46٪ أي ما يُعادل (6837) إلى ديارهم دون دخولهم نظام العدالة الجنائية.
تُشير الوقائع على الأرض نحو سمة واحدة وواضحة تتسم بها الاستجابات القائمة على ردود الأفعال: إنها دائماً ما تتأخر خطوةً واحدة خلف الجماعات المتطرفة. فبعدما كان داعش يعمل بالفعل على نشر سرديّته الكبرى المصممة ببراعة باستخدام الإنترنت والعديد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ أصحاب المصلحة المعنيون بمكافحة التطرف العنيف النّقاش حول كيفية بناء سرديّات مُضادة/بديلة وفعّالة. تبع هذا النقاش قوانين مكافحة جرائم الإنترنت.
بعدما بسط التنظيم قبضةً قوية على مساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا، معلناً الخلافة بشكلها المادي المزعوم، تم تشكيل تحالف دولي ضد داعش سعياً وراء تدميره على الأرض. تبع هذا الإعلان استخدام ضربات جوية ثقيلة. بعدما تم تشكيل التحالف المشؤوم بين الإسلاميين الراديكاليين في العراق والبعثيين السابقين من النظام العراقي السابق، تم إيلاء اهتمام أكبر للمجتمعات المحلية المحرومة من حقوقها في العراق كنتيجة للسياسات الطائفية التي اتبعتها الحكومة العراقية. تبع هذا الدعوة لسياسات حكومية أكثر شمولاً في العراق.
وعلى ذات النسق، بعدما تم حسم المعركة العسكرية ضد داعش، تم إيلاء أهمية أكبر لمناقشة دمج وإعادة تأهيل مقاتلي داعش الذين يعتزمون العودة إلى بلدانهم الأصلية. تبع ذلك نقاش أوسع حول برامج نزع التطرف.وبينما ما تزال التدابير والاستجابات القائمة على ردة الفعل ضرورية للتعامل مع التهديدات الأمنية المباشرة عند وقوعها، إلا أنه يَنبغي استثمار المزيد من الجهود والموارد في اتباع نهج يُبنى على التدابير الاستباقية لمنع قيام الجماعات المتطرفة العنيفة.
في سياق متصل، هناك حاجة ماسة لمزيد من التدابير الاستباقية لمعالجة مسألة عودة المقاتلين الإرهابيين الأجانب (FTFs) ومنعهم من العمل "كرواد أو بناة شبكات" إرهابية ومتطرفة في المستقبل. ويجب أن تبدأ هذه الإجراءات بتقديم بديل حقيقي وفاعل للفراغ الذي يمكن أن تملؤه تنظيمات كداعش. حيث يشير جسد واسع من الأبحاث حول الدوافع المحلية للتطرف العنيف إلى أن قرار الانضمام إلى مجموعة متطرفة يأتي من قبل الأفراد كردة فعل تجاه مظالم سياقية، وليس كفعلٍ نابع من مبادرة داخل الشخص نفسه. لذلك يجب أن تشتبك التدخلات والاستجابات المعنية بمكافحة التطرف العنيف مع الديناميات المُعقّدة لهذه المظالم السياقية بدلاً من محاربة أعراض التطرف العنيف. وتشمل هذه المظالم: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية، والأيديولوجية التي تدفع الأفراد نحو الانضمام إلى جماعة متطرفة عنيفة.
كما ينبغي أن تهدف التدابير الاستباقية إلى بناء قدرة المجتمع المحلي على التكيف والصمود عن طريق التواصل مع الأطراف المجتمعيين الرئيسيين، والذين يستطيعون مساعدة الأفراد المُعرضين للاختراق على تبنّي تصور أفضل وأكثر إيجابية للحياة. إذ يأتي ذلك عن طريق فتح آفاقٍ جديدةٍ للنمو الشخصي، مما يُساعد الأفراد على تعزيز الشعور بالمعنى والغرض في الحياة، في إطار بيئة تتعزز بها سيادة القانون. وهنا تُعد مساحات الحوار وأنظمة الحماية الاجتماعية أساسية.
في موازاة ذلك، يجب أن تتضمن التدابير الاستباقية زيادة التعاون بين الوكالات وتقسيم المسؤوليات بشكل واضح. فهناك حاجة إلى نهج شامل يتعدّى التدخلات الأمنية التي تتمحور حول الدولة وتتناول فقط المخاوف الأمنية المباشرة، لأنها لم تصل إلى تفكيك الفكر الراديكالي والأنشطة الخطرة التي تدعم الإرهاب. علاوةً على ذلك، يشير منشور حديث لمعهد WANA إلى أن النماذج الأمنية التي تركز على الدولة قد أثّرت سلباً على السلام والتنمية الإقليميين، وكذلك على الثقة والمشاركة السياسية.
أخيراً، يجب أن ندرك أنه على الرغم من وضع داعش في دائرة الضوء العالمية عند إعلان خلافته في عام 2014، إلا إن البيئة الخصبة التي تسمح لداعش والتنظيمات المشابهة له بالحياة والنمو كانت موجودة مُسبقاً، ولم يتم التعامل معها لسنواتٍ عديدة قبل عام 2014م. ولا شك أيضاً بأن هذه البيئة التمكينية قد أصبحت أكثر قسوةً اليوم. لذلك، لا يجب الخلط بين فقء فقاعة داعش عسكرياً وبين الهزيمة الدائمة للأيديولوجيا الأوسع التي تحتضنه.