يدور الكتاب الذي ألفه هوليبيك حول حزب اسلامي معتدل خيب آمال فرنسا بعد أن انتخب بشكل ديمقراطي عام 2022. وبعد الانتخابات، بدء المجتمع بالتغير شيئا فشيئا، فقامت النساء بارتداء ملابس أكثر احتشاما، لإخفاء شكل أجسادهن، وتركن العمل لملازمة أطفالهن في المنزل، ومارس الرجال تعدد الزوجات، وقرر الناس أن يخضعوا للإسلام. ولا تفرض الحكومة الإسلام على الشعب، بل الشعب هو من يختار اعتناقه.
وأطلق "مارك ليللا" على كتاب هوليبيك، في المراجعة التي أجراها بتكليف من "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، اسم "حكاية تحول بائس"، لأن المجتمع الذي كان متوقعا أن يتصف بالبؤس الإنساني، مثل الأحوال المزرية والاضطهاد والأمراض، تحول ليصبح نموذجا محببا للعيش فيه. ولا يقود الإسلام إلى تدمير المجتمعات، بل العكس، فالإسلام يجلب السلام والسكينة. وفي واقع الحال، عندما نفكر في نهاية النظام الرأسمالي، فما يخطر في أذهاننا عادة هو السيناريوهات المروعة، مثل الكوارث المناخية، والحروب العالمية، وانهيار الديمقراطية، الخ. ومع ذلك، لا نتخيل أبدا أن المجتمع الأوروبي قد يتحطم تحت الضغط السلمي من الإسلام.
وهي حكاية تحول بائس لأن المؤلف يصف عودة النموذج البطريركي على أنه في النهاية "ليس سيئا للغاية". وبالتأكيد، قد لا يوجد مساواة بين الجنسين، ولا حريات والأسلمة المطلقة للنظام التعليمي، إلا أن هذا المجتمع الجديد يمتلك العديد من المزايا ذات القيمة أيضا: الأسر المتماسكة، الثقافة الأخلاقية، النظام الاجتماعي، الإحساس بالمكان، الموت ذو المغزى، والرغبة في الاستمرار كثقافة. والإسلام ليس هدفا لسخرية الكاتب: ولكن هدفها المجتمع. وفي الواقع، يجري تصوير المجتمع الفرنسي (وكذا الأوروبي) على أنه غير مبالي، ويتجاهل قيمة الجوهرية وغير قادر على الدفاع عنها. وبالتالي فإن النتيجة المنطقية أن يسعد الناس بالانضمام إلى عقيدة دينية والتخلص من حريتهم الفارغة عديمة الهدف.
وحسب ما يراه هوليبيك، فقدت فرنسا (أوروبا) الإحساس بذاتها، وذلك بأن وضعت الحرية فوق كل شيء، واقتنعت بأنه كلما توسع مدى الحرية كان الناس بسعادة أكثر. ومع ذلك، يمكن أن تكون الحرية متعبة خاصة في العالم المعاصر ذو النزعة الاستهلاكية، حيث تؤطر الحرية من حيث الحقوق الشخصية فقط. ومن الأسهل الخضوع لما ينظر إلى أنه "سيد فاضل"، وتقصي الارتياح من كافة الضغوط التنافسية الرأسمالية، من الإذلال النتاجي، ومن علاقة المعاناة المتزايدة مع أجسامنا.
لا أعتقد أن الرواية معادية للإسلام. فقد كان من الممكن اختيار أي ديانة، بهدف تصوير الدور الذي يؤديه اإسلام في القصة- والمتثمل في القوة الاجتماعية الآخذة في التوسع والتي يخضع لها المجتمع في نهاية المطاف. ويشير العنوان الأصلي للكتاب "الخضوع" إلى كل من الاستيلاء الديمقراطي للحزب الإسلامي وتحول بطل الرواية فرانسوا إلى الإسلام نتيجة لذلك. وربما كان اختيار الإسلام محظوظا أكثر من اختيار غيره من الأديان، نظرا إلى الظاهرة الديموغرافية الحديثة، كالزيادة المطردة في أعداد المسلمين في أوروبا والزيادة المطردة التي لا تقل عن ذلك في أعداد المتحولين إلى الإسلام في الغرب (إضافة إلى التورية الجذابة "الخضوع- الإسلام").
ويشير هذا الكتاب إلى أن مستقبل العالم ومصيره قد لا يحددهما الاقتصاد بل الثقافة والأفكار والتعليم، ويمكن أن يترك كل ذلك أثرا على طاقاتنا الروحانية والذهنية، مثل الدين. ويجدر التفكير في هذه النقطة. وبرأيي فإن التعليم والدين يؤديان دورا جوهريا. ولهذا فإن للحوار بين الأديان أهمية بالغة في الوقت الحالي أكثر من ذي قبل. ومن المهم أيضا أن نرى كيف يحتفظ الحزب المعتدل في الرواية بوزارة التعليم فقط، تاركا بقية الوزارات للأحزاب الأخرى. فالتعليم هو الأساس في بناء الشعوب. وربما من المفيد أن نقدم الحجج لصالح التعليم، لكن التعليم ذو النوعية الأفضل. فالأسلوب هو المهم وليس الكمية.
وأورد الكتاب موضوعا مهما آخر وهو الحرية. ويشير ليللا إلى أن الحكومة الإسلامية غير مهتمة في إيجاد أناس أكثر حرية بل أنناس أفضل. ولا يمانع المجتمع بما أنه يبدو أن الحرية ثمن عادل مقابل نوعية جيدة من الحياة. لذا ما هو الأكثر أهمية، أن تعيش بشكل جيد أم أن تعيش بحرية؟ وبرأيي إذا لم لم تتوفر الحرية فإن الإنسان يجبر على أن يكون جيدا وبالتالي فهو ليس جيدا. فأن تكون جيدا يعني أن تختار التصرف بطريقة معينة. وعلى سبيل المثال، نظرية هوبز مفادها أن الصيغة الأفضل للحكومة هي النظام الملكي المطلق والذي يقوده ملك مستنير. وبهذه الحالة، لن تتوفر أي حريات وسيتوقع الملك في النهاية "الخضوع" من الشعب، بما أن غالبية البشر ليسوا منصفين ولا مستنيرين. والمشكلة الكامنة هنا، وهي أيضا الانتقاد الذي أوجهه إلى هوليبيك، هي أن الناس يسعدوا بالخضوع لفترة معينة. ثم يشعروا بالملل من ذلك ويرغبون بالتصرف على هواهم، ويملأهم الغضب عندما يكتشفوا أنهم لا يستطيعون ذلك. وسيبحثوا بالتالي عن بدائل جديدة، وتبدء الدائرة مرة أخرى.
وكذلك، ومن ناحية جدلية، هناك بالفعل ملك مستنير ومنصف، ألا وهو الله. فقد أعطانا الله القانون، لأننا مخلوقات لا خالقين وحريتنا هي الإسلام. وحقيقة أن هولينبيك اختار تصوير مجتمع يتحول فيه الجميع إلى الإسلام كواقع مرير لا يعني أنه معادي للإسلام، إنما يعني أنه ينظر إلى الدين من زاوية الإلحاد الراسخ. كما يعكس انعدام الروحانية في كتابه تجرد المجتمع الغربي من ما هو مقدس. فالرسوم الكاريكاتورية والأفلام التي أججت الروح الإسلامية، لم تكن لتحدث نفس الأثر في حال كانت تخاطب الجماهير المسيحية الغربية. فقد تخلى الغرب تدريجيا عن الدين بعد عصر التنوير. وربما يكون هذا ما يدور حوله "الخضوع": فبعد أن قتلنا الرب (نيتشه) وملأتنا نشوة الإحساس بالقوة بعد ذلك، فإن هناك من يحاول إعادته للحياة.