قد تُفاجئك العديد من الأمور عند الانتقال إلى بلدٍ أجنبي، قد يكون من بينها الطعام المحلي والانطباعات السائدة حول النظافة أو البيروقراطية ومدى فاعليتها في البلد الجديد. بالنسبة لي شخصيا، أعتقد أن أكثر ما ألهمني هو أهل البلد والتناقضات الكبيرة المدهشة بين سكانه.
لعلّ من أكثر الأمور المثيرة للدهشة التي لاحظتها لدى الأردنيين هو رغبتهم واستعدادهم للتعبير عن آرائهم حول أي موضوع وفي أي مناسبة وحتى إن لم يكونوا على معرفة سابقة بمُحاورِهم. حضرت مؤخراً أحد المؤتمرات حيث تعرّفت على مجموعة من خريجي الجامعات الأردنية الذين شاركوا في برامج التبادل الثقافي الأوروبية. وبعد أن قلت بأني نلت درجة الماجستير في القانون الإسلامي [الشريعة] وحقوق الإنسان، وجدت نفسي في نقاش محموم حول الشريعة والديمقراطية. وقد خطر ببالي كم يقلّل بعض الأشخاص من الديمقراطية أو يطمحون لها كل بحسب الخلفية التي أتى منها. وبما أني من إيطاليا ذلك البلد الأوروبي الذي لم تكن الديمقراطية مطبقة كما ينبغي لعقود من الزمن، لم أكن مسرورة للحديث عن مزايا وأثر الديمقراطية. إذ وضعت قائمة بالعيوب المحتملة التي قد تشوب أي نظام ديمقراطي. ولكن محاوري الذي تعرفت إليه للتو وهو شاب آتٍ من بلد ناشئ تحيط به الحروب وشحة الموارد الطبيعية أبدى اعتراضه على ما قلت وأكمل بعرض اعتقاده بأن الديمقراطية هي المفتاح لمستقبل المنطقة ورافعة النمو الاقتصادي وأداة لمحاربة التطرف ونموذج لعكس أولويات جيله على السياسة العامة.
في بداية النقاش اعنقدت بأنني فهمت الموضوع بأكمله. لقد كان زميلي يعتبر الديمقراطية مثلا أعلى كالكثير من الناس الآن ومن دون التفكير بشكل نقدي بكافة ثغراتها.
على سبيل المثال يمكن للديمقراطية اقصاء الأديان والأقليات الأثنية من الحكومة وعملية صنع القرار. لذلك وضعت العديد من البلدان التي تضم أقليات عرقية وأديان مختلفة فكرة الكوتا الانتخابية . لقد أشار - محاوري- إلى أنه من الصعب أن تتوافق فكرة الكوتا مع مبدأ المساواة الذي قامت الديمقراطية عليه؛ فإذا كان الناس متساوون لم تُمنح مجموعات بعينها معاملة خاصة؟ كان جوابي بأنه قد ثبت أن المساواة مفهوم أخلاقي نموذجي وليست حقيقة واقعة. بغض النظر عمّا ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن البشر لم يولدوا متساويين. في كل أنحاء العالم يتم التعامل مع الفقراء بشكل مختلف تماماً عن معاملة الأغنياء كما تتم معاملة الأفراد بحسب العرق والدين ولون البشرة والسمات الجسمانية والإعاقات. إذا كانت المساواة أساس الديمقراطية، كيف تتوقع أن تنجح في وجه واقع عدم المساواة اليومي؟ إذ يحمي نظام الكوتا الأقليات من طغيان الأغلبية وهذا أحد المخاطر الواقعية للديمقراطية .
ووفقاً لما أشار إليه توكفيل [سياسي فرنسي في القرن الثامن عشر] قبل قرنين تقريبا فإن للديمقراطية نزعتين: الأولى تقود العقل إلى التطرّق لأفكار جديدة والثانية تدفع إلى منعه من التفكير إطلاقاً. بينما تتطلب النزعة الأولى الحرية ولكن الحرية بمفردها ليست كافية. إذ للحصول على نظام ديمقراطي فاعل يجب أن يقوم العقل البشري بدوره يجب أن يكون ناشطاً ومبدعاً ومبتكراً أصيلاً إذ لا يجوز أن يركن إلى السكون أو الخمول. إذا لم يتحقق هذا الشرط فإن النزعة الثانية تؤتي بثمارها. في الوقت الراهن يعاني العالم بأسره من جفاف في الفكر المبتكر الأصيل وقد يكون السبب بذلك هو أن تكون مبدعاً يعني في بعض الأحيان أن تكون أقلية – أقلية فكرية – وقد يكون السبب أن الناس تفضل أحيانا الامتثال والقوة على الابتكار والاسثنائية.
حينها خطرت ببالي فكرة لم يكن هذا الشاب ينظر إلى الديمقراطية على أنها مثل أعلى كامل بل كان مدركاً تماماً لعيوبها ومطلعاً على كافة الأنظمة السياسية، وفي الوقت الحاضر تعد الديمقراطية ضامنة للحرية. ولكن لا يمكن فرض الديمقراطية عبر سنّ القوانين فحسب، وهنا يأتي دور التعليم. إذ يقوم التعليم بالدفع نحو توسيع الإدراك الشعبي بالحقوق والواجبات والسلوكيات الجماعية والحوكمة المسؤولة التي تضمن استمرارية وكفاءة وفعالية الديمقراطية.
بعد هذا النقاش شعرت بأنني كنت الامتثالي انتقد الديمقراطية ككل الشبان الأوروبين الليبراليين الذين درسو في جامعات يسارية كالتي ارتدتها. إذ لم يكن تفاؤله يعني المثالية لم يعنِ انعدام التفكير النقدي. وبالمجمل فقد قطع الأردن أشواطا كبيرة في الترويج للتعددية السياسية والمسؤولية الديمقراطية. أشجع الأردن على المضي قدما فالكرة في ملعبه وتبدو الرياح في شراعه.