إن اللحظة التي طور فيها المهندس الأسكتلندي، جميس واط، المحرك البخاري في منتصف القرن الثامن عشر كانت كافية لتُغير حاضر البشرية ومستقبلها بطريقة غير مسبوقة في أي اختراعٍ مضى. حيث إن المتتبع للتاريخ يرى أن هذا الاختراع هو أساس بداية ثورات التنمية والتطور التي ما هي إلا استمرار طبيعي للتطور الذي بدأه الإنسان منذ الأزل. منذ مطلع الألفية الثالثة "عصر الثورة الصناعية الرابعة"، تحوّل عالمنا إلى قرية صغيرة تعيش واقعاً من التغيّر المستمر، حيث إن هذا النمط الجديد الذي فرض نفسه كضرورة يجب على الشعوب أن تتكيف معها لضمان استمرارية تقدمها.
هذه الثورة الصناعية الرابعة التي تجتاح العالم اليوم تحت شعار خفض تكلفة الإنتاج مقابل رفع الإيرادات. يندرج تحت عنوانها العديد من المصطلحات العلمية البارزة أهمها: الذكاء الاصطناعي، الطباعة ثلاثية الأبعاد، إنترنت الأشياء بالإضافة إلى البيانات الضخمة، ولتفعيل هذه المحاور وإدخالها حيز التطبيق لا بد أن يرافقها ثورة كبيرة مدروسة في قطاع التعليم، تناسب واقع المرحلة.
كان الأردن منذ تأسيسه جزءاً لا يتجزأ من هذا العالم المتغير، ولم يتكيف ويتطور ضمن محيطه الإقليمي والعربي والعالمي فحسب بل كان من الرواد في المنطقة في تطوير البنية التحتية التعليمية في الأردن وكذلك ساهم في بناء المؤسسات التعليمية والاقتصادية والثقافية في الكثير من الدول في الشرق الأوسط. إلا أن هذه التجربة الأردنية الرائدة باتت تعاني من خللٍ وفراغٍ واضحين، حيث تأثرت المنظومة التعليمية منذ سبعينيات القرن الماضي بالعديد من العوامل والظروف التي تحتاج إلى دراسات تحليلية عميقة مطولة لفهم أسبابها.
يجب على الطريق إلى التكيف المليء بالتحديات أن يرتبط بالحاجة إلى الابتعاد عن الاستجابة التقليدية المتمثلة برد فعل معاكس لكل فعل، والبدء عبر خارطة طريق وطنية لتطوير العملية التعليمية تشمل كافة مكونات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، و لتحقيق هذه النقلة في أسلوب يواكب الثورة الصناعية الرابعة، لا بد أن ترتكز الخطة الوطنية على عدة محاور أساسية مرتبطة منها:
أولا: منهجية التفكير، علينا العمل على تغيير منهجية التفكير لدى المجتمع الأردني والتي تربط النظام التعليمي القديم بغايات اجتماعية محددة، عبر اعتبار التعليم فرصة لتشكيل حياة الشخص، حيث إن منهجية التفكير التقليدية في هذا المجال تحد تطور النهج الإبداعي لما تسببه من فقدان الشغف والدافع للتطور والعطاء لدى الكثيرين بسبب قولبة النجاح في صورة نمطية واحدة. هذا النمط يتمثل بقياس معايير النجاح عبر إنهاء التعليم خلال مدة زمنية معينة والحصول على الشهادة أو عبر دراسة تخصصات معينة والتي تعطي دارسها نوعا من الأمان النفسي والوظيفي والاجتماعي الزائف بعيدا عن متطلبات العصر العلمية أو سوق العمل.
ثانياً: المناهج الدراسية، البدء السريع في عملية تطوير شامل مبني على أسس علمية للمناهج المدرسية والجامعية. هذا التطوير ضروري لجعلها عصرية وأكثر مرونة وتساعد طالب العلم على اكتساب المعلومات والتعلم عن طريق التفاعل لا عن طريق الحفظ والتلقين. هذا التطوير يجب البدء فيه بالصفوف الابتدائية الأساسية، وفقاً للعديد من الاختبارات الدولية المعتمدة على قياسات الأداء المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة هناك انخفاضٌ واضحٌ في مستوى طلبة المدارس في الأردن. تطوير المناهج الموجهة للمدارس وإدخال الأفكار الحديثة سينعكس إيجاباً على الجامعات الأردنية، حيث إن مخرجات هذه المدارس ما هي إلا مدخلات المرحلة الجامعية التي يجب التركيز فيها على أهمية الانتقال من موضوع الامتحانات إلى تغطية فجوة البحث العلمي والابتكار والتفكير النقدي بكافة أنواعه.
ثالثا: الموارد البشرية، يجب تسخير الطاقات كلها لاستقطاب الموارد البشرية الأردنية المغتربة في الوقت الحالي المتمكنة والقادرة على تعليم الأجيال القادمة وتطويرهم في مجالات الثورة الصناعية الرابعة مع الحرص على سن قوانين وأنظمة لحماية هؤلاء المبدعين.
رابعا: الإدارة العامة، لا بد من البدء بعمليات إعادة تأسيس ودمج لخلق نظام إداري عادل مرن قادر على ضمان البدء بعملية تطوير مبني على الحيادية والكفاءة واختيار الأفضل بعيداً عن البيروقراطية المعقدة عبر ضمان وجود الضوابط والموازين الرقابية، مع التركيز على أهمية التشبيك الفاعل مع القطاع الخاص والمنظمات الدولية ذات الخبرة الكبيرة.
من رحم هذه النقاط وغيرها تبرز أهمية الإقرار بأنه آن الأوان للتغيير عبر عملية التشبيك والضغط من الشباب الأردني على المؤسسات كافة، ولحصول هذا التشبيك والضغط فإنه تبرز الآن أهمية التركيز على التعليم لتجهيز الشباب الصاعد علميا ومهنيا عبر المؤسسات التعليمية المحلية وربطها مع نظيراتها العالمية حيث سيؤدي العمل على المحاور المذكورة أعلاه تدريجياً وعلى المدى الطويل إلى ضمان الوصول التدريجي للقيادات الشابة المنفتحة والقادرة على إحداث التغيير محليا وعالميا.